كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (العبودية): نهايات تراجيدية مؤثرة
لطالما كانت "الحرية" قضية أساسية وشائكة في حياة الإنسان، وخاصةً الإنسان الحديث والمُنفتح نحو رفض أشكال العبودية المُمارسة من السلطة القمعية أو الأنظمة الاقتصادية الجائرة على حرية الفرد، وعلى الرغم من عدِّها حقًّا إنسانيًّا تنص عليه معاهدة حقوق الإنسان، ولكنَّ هذا "الحق الإنساني" له من المتاهات والأشكال ما هو أعمق مما ذُكِر أعلاه، بل إنه من الصعب والصعب جدًا أن يُوجد الإنسان المتمتِّع بحرية مطلقة، والمتحرِّر من ذاته وإغواءاته المتكبدة من المجتمع وطبيعته البشرية، ولأن العبودية بمفهومها الذي قدَّمه (مكسيم غوركي) حالة أوسع بكثير من التصورات السياسية الجافة، فإنه ليجدر بنا أن ندرك أخطر أنواع العبودية؛ تلك التي نختارها برغبتنا الخاصة وبوعينا الكامل، بأن نكون عبيدًا لذواتنا.
وكثيرون هم من وقعوا أسرى في معتقلات الشعور، فلا يمضي عليهم اليوم إلا وهم غارقون في عبودية مشاعرهم وسلوكياتهم، وما أن يلتمس الإنسان مهربًا ليخرج من حالة التخابُط تلك حتى يقف مشاهدًا ومشاركًا بين حرب الخضوع لعبوديته وحرب التحرُّر ممَّا يتكبَّده.
والأمر لا يرتكز على الشعور ومتاهاته فحسب، أو على أي نواحٍ معنوية واجتماعية من حياة الإنسان، بل قد يكون قيد العبودية ماديًّا بجذوره قبل أن يؤول به الأمر إلى أشكال مختلفة، والأديب الماركسي (مكسيم غوركي) وضَّح هذا الارتباط بين جذور العبودية المُستندة على المال والحياة الاجتماعية؛ كأن يصبح الشخص منكسرًا أمام المال وحده، فإن قلَّ ضاقت به سلسة الفقر حدَّا الانكسار، وإن وَسِع وصل به إلى ظلام الجشع والاستكبار؛ فهو في الحالتين يعيش العبودية.
فهذه "العبودية" بمفهومها العميق تكوِّن المحور الأساسي في العمل؛ إذ إنَّه يحاكي قصصًا مختلفة تشير إلى ذات المضمون بدرجات متفاوتة، وتوضِّح أدبيًّا وفلسفيًّا الآثار التي تصبغها العبودية في النفس المُستعبدة، إضافةً إلى الأسباب التي تدفع الإنسان نحو اختيارها والخضوع لحُكمها، وبأسلوب سرد بسيط يضمن إيصال الأفكار المنبثقة من بين الحوارات والأحداث المختلفة، وتبدأ مع قصة رجلٍ يروي وقائع ماضيه الأليم؛ إذ إنَّ الحب جعل منه عبدًا مطيعًا لإحدى النساء، والتي كانت بدورها عبدةً للفن والمسرح، ويمتد الأمر نحو تفاصيل حياته من أكثرها بساطةً إلى أكثرها تعقيدًا؛ الأسرية والمالية منها، مُجبرًا بخضوعه لعنفوان ذلك الحب، أو الاستعباد الطوعي، على أن يخوض لحظات قاسية للغاية تودي به إلى حياة تعيسة يعيش فيها ملاحقًا ذكرياته وغاياته المكبوتة، وبذلك يتكوَّن الوجه الأول لخصال فلسفة الرواية، ألا وهي الخضوع لقيود العاطفة إجبارًا؛ ملحمة القلب والعقل، المشاعر والعقلانية بتسليم كامل من الذات، يحمل المسلَّم به إلى آثار مُدمِّرة ودائمة.
قصة أخرى تروي جزءًا من حياة فتى يتضور جوعًا، ليجد بين متاهات ظلمةِ المدينة فتاةً تنوي سرقة بعض من الطعام، والذي هو الحلم الكبير بالنسبة إليهما، فيودي بهما الأمر إلى الجلوس على قارب واحد فتنكسر الحواجز كلها بينهما بتضرع كل واحد منهم لملامسة ألم الآخر، وبها يظهر جانب آخر من فلسفة الرواية، وهي اتخاذ الآلام وسيلة للتقارب فيما بين البشر وتحويل الأحلام الصغيرة للجائعين إلى مشاريع كبيرة تضمنُ لهم الحياة.
أما عن القصة الأخيرة، فقد كانت عن فتى يافع ورجل مسنٍّ، يلتمسان المال عن طريق التسول، ويظهر في هذه القصة صراع مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" مع أخلاقيات الوسيلة ومعيارها، حينما يضطر الرجل العجوز إلى السرقة من أجل الفتى؛ الشيء الذي رفضه الفتى بشدة، وتتطور في هذه القصة رسالةُ الرواية في إيضاح النتائج المترتبة على اتخاذ الخطيئة من أجل أهداف سامية، بما يتضمن الأمر من تحوير في بنية الهدف والعواقب التي تفرض على صاحب هذه الأفعال، لتصبح الرواية بكل هذا أداةً لمحاكاة الواقع الاجتماعي والنفسي من أبعاده التفسيرية التي قد لا تكون ظاهرة بقدر ما أنَّها تقبع في أعماق المُستعبدين.
معلومات الكتاب:
مكسيم. غوركي. العبودية. المترجم: عدلي كامل. بيروت: دار الرافدين، 160 ص، ط1، 2017.