الفنون البصرية > منوعات فنية
الهولندي خيرارد داو ، (امرأة تعزف على آلة الكلافيكورد - 1665)
بدايات الفنان، وأسلوب "إطار ضمن إطار اللوحة" الذي تميز به:
(رابط للوحة صورته الشخصية)
"خيريت داو-Gerrit Dou"؛ يُعرف بـ "خيرارد داو-Gerard Dou" أيضاً، هو فنان هولندي من عصر (الباروك)، والفنان الرائد لمدرسة (لايدن)، وُلِدَ في مدينة (لايدن (Leiden) - هولندا) في السابع من نيسان عام 1613، وتُوفِي في التاسع من شباط عام 1675 في (لايدن).
تدرَّب "داو-Dou" في بداية حياته الفنية على يد أبيه، فقد كان الابنَ الأصغر لأبيه الذي يعمل في حفر وتركيب الزجاج. كان تَعلُّمُ هذه المهنة بلا شك أحدَ أهم الأسباب التي مكنت "داو" من تطوير أسلوبه شديدِ الدقة في الرسم لاحقاً. بدأ تدريبُ "داو" الرسمي كرسام عام 1628، عندما أُرسِل إلى محترف الرسم الشهير "رامبرانت-Rembrandt"، وظلَّ يتدرب مع معلمه مدة ثلاث سنوات، إلى أن غادر "رامبرانت" مدينةَ (لايدن) عام 1631، وحينها خفَّ أثرُه تدريجياً في تقنية تلميذه. درس "داو" في تلك السنين الثلاثة فن الرسم مع "رامبرانت" متبنياً بذلك خياراتِ معلِّمه فيما يخص المواضيع التي يصورها، وتقنية العجينة اللونية البالغة المهارة، كما تبنى المحاكمة والتحليل الدراماتيكي للضوء والظل اللذين اشتُهِر بهما "رامبرانت".
تابع "داو-Dou" الرسمَ على الألواح الخشبية بمقاييس صغيرة، وأدّت الطبيعةُ الصامتة دوراً مهماً في لوحاته، فعلى سبيل المثال: (غالباً ما كانت مشاهد المطابخ التي يرسمها مزدحمةً بالخضروات والدواجن وأوعية المطبخ). أكثرُ طرائقه في الرسم تميزاً كانت "إطار ضمن إطار"؛ إذ ينظر المشاهد من خلال نافذة حجرية رمادية اللون إلى اللوحة التي تصور مشهداً من الحياة اليومية داخل المنزل.
اشتُهِر "داو" خصوصاً بالمشاهد التي تمثّل الحياة الناس اليوميّة في المنازل، وتصوّر نشاطاتهم اليومية بطريقة واقعية، وعُرِف هذا النوع من الرسم باسم (Genre Painting)، كما اشتُهِر برسم الصور الشخصية. كان من أشهر شخصيات مجموعة الرسامين الذين نشطوا وعملوا في مدينة (لايدن) في الجمهورية الهولندية. تخصص هؤلاء الفنانون باللوحات صغيرة الحجم الممتلئة بالتفاصيل الدقيقة، واعتمدوا في هذه اللوحات على التصوير الدقيق والواقعي لمختلف الأسطح وملامسها، هذه الموهبة الواضحة في لوحات متحف دولويتش (Dulwich) في لندن، وهو المتحف الذي توجد فيه اللوحة التي سنتحدث عنها اليوم.
اللوحة وتكوينها المنسجم:
رسم "داو" لوحة (امرأة تعزف على آلة الكلافيكورد) قرابة عام 1665، نذكر أنّ طولها 37.7 سنتيمتر، وعرضها 29.9 سنتميتر فقط، وهي مشغولة بتقنية الألوان الزيتية على الخشب.
تُرسَمُ الستارة في اللوحة مسحوبةً إلى الوراء لتكشف عن امرأة تجلس وحيدةً في غرفة غير مُضَاءة. يمكننا رؤيةُ المرأة تعزف على الكلافيكورد؛ وهي آلة مفاتيحَ (كالبيانو) قابلةٌ للحمل وذات صوت خافت وهادئ إلى حد ما، ونراها متصلةً مع غطاء مزخرف خاص بها. يدخل ضوء الشمس إلى الغرفة عن طريق نافذة موجودة إلى يسار اللوحة، ويضيءُ شخص المرأة الممثلة في اللوحة، وتلامسُ أشعة الشمس المرسومة عناصرَ الطبيعة الصامتة المنتشرة في فراغ اللوحة: قفصٌ فارغ للطيور مُعلَّق في السقف، وِسادة مخملية على كرسي من الخشب المحفور، وإبريق وحوض محاطان بغصن من كرمة العنب، ونرى آلة موسيقية وترية كبيرة تدعى (فيول دا جامبا-Viol Da Gamba). ننظر أيضاً إلى طاولة عليها كتاب موسيقا مفتوح وآلة (فلوت)، وطبق كبير عليه كأس من النبيذ.
صُوِّرت كلُ هذه التفاصيل بواقعية شديدة الدّقّة، إلى درجة أنها تحرك في المشاهد رغبة أن يمد يده إلى تلك التفاصيل محاوَلةً منه في لمسها ومعاينتها. تنظر المرأة في اللوحة إلينا كأننا قد تطفَّلنا عليها بمقاطعة لحظيّة للحفل الموسيقي الفردي والحميم خاصتها. لربما هي في انتظار حبيبها الذي سيعود ويشاركها في العزف على آلة الـ (Viol)، ولربما نحن _المشاهدين_ من المفترض علينا أن نأخذ مكان حبيبها في اللوحة.
الرموز والدلالات الجنسية في الطبيعة الصامتة التي تشير إلى الحبيب الغائب عن مشهد اللوحة:
إن تفسير الطبقات المعقدة من المعاني في لوحات "Dou" بعيد كلياً عن المباشرة. فمن جهة؛ قد تبدو تفاصيل الطبيعة الصامتة العديدة مأخوذةً على منحى حرفي وواقعي فقط كما هو الحال المعهود في طريقة الرسم عند الفنان شديدة الانتباه للتفاصيل عندما يأتي الأمر لتصوير العالم من حوله، ومن جهة أخرى؛ يمكن لكل عنصر في اللوحة أن يحمل رمزاً معيناً، واللوحة مليئة بالمعاني المختبئة، والعديد من هذه المعاني يمكن أن يشير إلى فكرة أنَّ الشريكَ الغائب في هذه اللوحة هو حبيب المرأة، واللوحة لها عدة دلالاتٍ ومعانٍ جنسيةٌ وشهوانية.
التفسير الأخير لهذه اللوحة الذي تطور مع نظرية الفن التاريخية في ستينات القرن العشرين ينوِّه لانتشار كتب التمثيل بالرموز (Emblem books) كونها نقطةً مرجعيَّةً للفنانين؛ وتلك الكتب هي من الأنواع التي انتشرت في العصور الوسطى وعصر النهضة في أوروبا، وكانت تحتوي على رسوم مرفقة بتفسيرات استعارية. بناءً على ذلك آلة الفلوت والإبريق و""قوس"" آلة الفيول (Viol) تصبح رموزاً للجنس المذَكَّر، أمّا حوض الغسيل وآلة الفيول (Viol) فيمثلان الأنثى. بطريقة مماثلة؛ قفص العصافير الموجود في أعلى اللوحة يمثِّل عذريَّة المرأة التي يمكن أن تكون قد أُخذت مسبقاً.
ولكن من ناحية أخرى؛ الحجَّة ضدَّ رؤية كلٍّ من تلك الرموز وفهمها على النحو الذي ذُكِرَ كان بسبب أنه لا يوجد مصادر معاصرة تؤكد مثل التفسيرات السابقة لهذا النوع من الرسم.
يبقى أن نذكرَ أنَّ أسلوبَ "داو" في التصوير كان ملهماً إلهاماً كبيراً بالنسبة لفنَّاني (لايدن)، وبالأخص للفنان الشهير "يوهانس فيرمير-Johannes Vermeer" الذي بدأ هو الأخير بعد ذلك بفترة وجيزة برسم مشاهده الخاصة داخل البيوت ممثلاً النساءَ وَهنَّ يعزفنَ على آلات المفاتيح.
مصادر المقال: