كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
مراجعة كتاب (الآراء والمعتقدات) معتقداتنا تحت الضوء
في تسعةِ أبواب يتحدث غوستاف لوبون عن غاية كتابه وهي البحث عن تكوين الآراء والمعتقدات، وقد قلَّت الأبحاث في هذا السياق بسبب قلّة المصادر المرتبطة بها، لكن لنفهم كيف تتكون الآراء وتنتشر -وفق رؤية لوبون- سنبدأُ بالحديث عن هذه الفصول تباعًا..
الباب الأول (المعرفة والمعتقد):
إنَّ كل من يحاول فهم المعتقدات عن طريق المنطق العقلي سوف يفشل، لأنَّ المعتقدات والآراء غير عقلية وغير إرادية إذ يوجد فرقٌ كبيرٌ بين المعرفة والمُعتقَد.
فالمعتقد -كما يعرّفه غوستاف- هو إيمان ناشئ عن مصدر لاشعوري، إذ إنَّ الإنسان بحاجة دائمًا إلى الاعتقاد، فللمعتقدات سلطانٌ كبيرٌ علينا، ولهذا يَعدُّ غوستاف أنَّ أنجحَ الثورات هي تلك التي تغّير من معتقدات الشعوب التي استمرت بالخضوع لها عقودًا طويلة، فيقول في هذا السياق: "لهذا كانت الثورات الحقيقية هي التي تتجدد بها معتقدات الشعوب الأساسية".
وللغوص أكثر في بحث غوستاف عن تكوين الآراء؛ سننتقل إلى الباب الثاني (ميدان الآراء والمعتقدات النفسي)، لكي نتحدث عن العوامل المحركة لتبنّي المعتقدات، ونذكر منها اللذة والألم اللذَين يولّدان الرغبة؛ حاكمة الإنسان المطلقة، وقد رأى المصلح (بوذا) أنَّ الرغبة قوة مهيمنة على الأشخاص، ولذا حاول تحرير الناس منها؛ حسب اعتقاده.
وأمَّا العادة فهي سببُ استمرار أفعال الناس، وبها نألف أشد المصائب وهي أساس الحياة الاجتماعية، لكن على الشعوب أن تبتدع عادات اجتماعية جديدة، لأن الاستمرار بها زمنًا طويلًا سيقود الأمة إلى جمودٍ لن تتخلص منه إلَّا بثورات عنيفة.
ويربط الكاتب العادةَ باللاشعور، فاللاشعور مخزنٌ مكتظٌ بالحالات العاطفية والذهنية والمشاعر التي لا تنفذ إلى دائرة الشعور إلَّا بعد أن تنضج في اللاشعور، لذا فقد كان للحوادث اللاشعورية دورًا أهمَّ في حياتنا من الدور الذي تمثله الحوادث العقلية.
وفي التطرق للحديث عن المشاعر والعقل يرى غوستاف أنَّ للمشاعر ذاكرةً كذاكرة العقل ولكنّها أقلُّ منها ثباتًا، ولو أن لذاكرة المشاعر ثباتًا كذاكرة العقل لهلكَ الإنسان من كثرة تذكُّر آلامه.
وفي الفصل الثالث (أنواع المنطق المُسيّر لآرائنا ومعتقداتنا) قسّم غوستاف المنطق أربعةَ أنواع، وهي منطق الحياة والمنطق العقلي والمنطق العاطفي والمنطق الديني.
فمنطق الحياة هو الذي يسيطر على بقاء الأنواع، ويقول الكاتب في الحديث عنه: "يجري حكمه بعيدًا عن إرادة الإنسان ويأتي بمطابقات تسير بفعل قوى لا نعرف من أمرها شيئًا ويظهر أنّ القوى المذكورة تسير كأنها مالكة لعقل أسمى من عقلنا".
أمَّا المنطق العقلي فهو الذي يجعلنا نبتكر ونخترع وهو يختلف عن المنطق العاطفي الذي يسيّر أمور حياتنا،
إذ يقول غوستاف: "المنطق العقلي يدير دائرة الشعور وأما المنطق العاطفي فإنه مسؤول على دائرة اللاشعور، وبما أن سلسلة المنطق العاطفي لاشعورية فإننا لا ندرك تطور مشاعرنا إلا قليلًا فنحن نقود حياتنا العقلية ولكن لا سلطان لنا على حياتنا العاطفية".
أما المنطق الديني فهو على خلاف العقلي؛ إذ يرضى بالمتناقضات، وهو ذو سلطان قوي في الحكم عند الشعوب، ويوضح غوستاف رأيه في المنطق الديني بقوله: "وبإيجاده القوانين والعادات والأديان قد ولد جميع الأوهام التي سيرت النوع الإنساني حتى يومنا هذا وهو من القوة بحيث يقدر على جعل الخيال حقيقة".
ويكمل الكاتب حديثه عن المعتقدات في الباب الرابع (العراك بين أنواع المعتقدات) فيقول أنه قد تقترن أو تتضاد أنواع المنطق أحدها مع الآخر، فنرى أغلب رجال العلم يسيّرهم المنطق العقلي، ومع ذلك فبعضهم يؤمن بمعتقدات دينية ينهزم جيشُها أمام المنطق العقلي، وبهذا نجدهم منقادين للمنطق العقلي والعاطفي معًا.
ويتحدث الباب الخامس (آراء الأفراد ومعتقداتهم) عن العوامل التي تسهم في تكوين المعتقدات، وأهمها التلقين وهو القوة التي يؤثر بها في الأفكار والمعتقدات، ويكون التلقين عن طريق البيئة والكتب والجرائد والخطب، حتى الدراويش يلقنون من يحيط بهم فيجعلونهم يعتقدون أمورًا لا أساس لها.
قد يخطر في ذهنك عزيزي القارئ سؤال فضولي، إذا كانت العوامل التي تسهم في تشكيل الآراء واحدة فلماذا نختلف بالآراء ؟
يجيبك غوستاف على سؤالك هذا فيقول: "إن الآراء قائمة على عناصر عاطفية ودينية وبالتالي تتبدل بتبدل البيئة والتربية فقد تتكلم الأمة بلغة واحدة لكن الألفاظ توقظ في الأبناء مشاعر وآراء متباينة للغاية".
وبعد الحديث عن آراء الأفراد؛ ينتقل غوستاف إلى الحديث عن (آراء الجموع ومعتقداتها) في الباب السادس.
فعلى الرغم من شدة تباين الآراء الفردية فإنَّ الشعب يبدو ثابتًا في الرأي العام، فهو كالبحر يوجد تحت أمواجه الهائجة مياه ساكنة. ولهذا كانت الجموع حسب قول غوستاف "تعيد النظم التي حطمتها بأسماء جديدة".
ويوضح غوستاف وجهة نظره في كيفية انتشار هذه المعتقدات في الباب السابع (انتشار الآراء والمعتقدات).
إن كلًّا من التوكيد والتكرار يعدّان من أهم الوسائل للانتشار، فلا يلبث التوكيد أن يُكرَّر تكرارًا كافيًا حتى يُحدِث رأيًا ثم معتقدًا
ومن طرائق الانتشار نذكر العدوى النفسية وتتمثل بالتسليم للمعتقدات تسليمًا غيرَ إرادي، وهو أمر شائع بين الجموع، وتؤثر العدوى بدائرة اللاشعور ولا شأن للعقل فيها، لذا لا نعجب عندما نرى علماء يدافعون عن معتقدات مخالفة للصواب.
أما الباب الثامن (حياة المعتقدات) فيرى الكاتب فيه أنَّ المعتقد هو احتياج نفسي مهيمن وكلما ازدادت قوة المعتقد قلَّ التساهل فيه سواء أكان المعتقد سياسيًّا أم دينيًّا.
ويذكر الكاتب في الباب التاسع والأخير (مباحث تجريبية) كيف أنَّ لكلٍّ من العدوى النفسية والتلقين دورًا مهمًّا في انتشار المعتقدات لا سيما إذا صدرت عن مصدر ذي ثقة وأهمية كالعلماء، كما وقع في حادثة أشعة (ن)، حين ظنَّ أحد العلماء وهو (بلوندلو) أنّه شاهدَ كثيرًا من الأجسام تنشر أشعة خاصة نعتها بأشعة (ن)، التي يمكن قياس تموجها بدقة، وقد سلَّم أكثر علماء فرنسا بصحة زعمه غير مجادلين لأنه ذو نفوذ كبير وقد كرّروا التجربة بأنفسهم فرأوا صحة ما تلقنوه، وبعد مدة ثبتَ أنّه لا أساس لتلك الأشعة، لكنَّ العلماء قد سلموا لها بتأثير العدوى لأن عالمًا كبيرًا تحدث عنها.
إن للإيمان بالمعتقدات قوةً لا يمكن الاستهانة بها، ولذا كانت غاية الكتاب أن يجعلنا نتوقف ونتفحّص أصول معتقداتنا لكي ننخرط في الاتجاه الصحيح في الحياة.
معلومات الكتاب:
لوبون، غوستاف. الآراء والمعتقدات. ترجمة: عادل، زعيتر. سوريا، دمشق: دار التنوع الثقافي. 2019. عدد الصفحات 286.