كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
مراجعة كتاب (تاريخ دمشق المنسي): حكاياتٌ دمشقية
"يضم هذا الكتاب مجموعة من الدراسات التاريخية المنشورة باللغة الإنكليزية في مجلات أكاديمية محكمة، وتتناول مراحل مختلفة ومنسيَّة من تاريخ مدينة دمشق المعاصر".
بهذه العبارة يفتتح المؤرخ (سامي مبيض) مقدمة الكتاب موضِّحًا ما يستند إليه من دراسات مُحكمة، فيروي منطلقًا منها وقائع أربع حكايات دمشقية معظمها غائبٌ عن أذهان السوريين، وقد جاء على ذكرها بالتفصيل لما لها -حسب رأيه- من صلة معنوية مباشرة للواقع السوري في حاضرنا.
المنسية الأولى (حكومة الأمير سعيد الجزائري- أيلول 1918).
تدور أحداث هذه الواقعة عام 1918 في الأسبوع الفاصل بين انهيار الدولة العثمانية وانسحاب جيوشها من دمشق نهايةَ الحرب العالمية الأولى، وبين دخول الجيوش العربية والإنكليزية أبوابَ المدينة تحديدًا.
ويسلط الكاتب الضوء على موقف أهالي دمشق الذين استطاعوا إدارة الأمور الداخلية لمدينتهم في فترة كانت عصيبة على المدينة وأهلها، ففي نهاية الحرب انتشر وباء التيفوئيد والكوليرا، وعاش الأهالي في ظلام مدة شتاء وصيف كامل؛ بسبب قَطْع السلطات العثمانية التيار الكهربائي عن دمشق لعجزها عن تشغيل محطات التوليد، ولم تعد المدينة آمنة للسير ليلًا، ونفذت منها المؤن لأول مرة منذ بداية الحرب أيضًا؛ بسبب النشَّالين الذين قطعوا الطرقات التي تربط دمشق بغوطتها، وخَلَت المدينة من الرجال والشباب من عمر الثامنة عشر إلى عمر الأربعين بسبب سَوْقهم إلى معارك الحرب الكبرى بأمر من السلطان العثماني بما عُرِف بمعارك (السفر برلك) الشهيرة للبعض.
وعندها نفَّذ شاب يدعى (الأمير سعيد الجزائري) مبادرةً فردية مُتقدمًا إلى السلطان العثماني بطلب تأمين حماية المدينة من المجرمين، فوافق السلطان على طلبه مقابل تأمينه كذلك الحماية لجيشه المهزوم في أثناء انسحابه من دمشق.
وبعد تنفيذ الاتفاق شكَّل الأمير (سعيد) حكومةً صغيرة لإدارة شؤون البلاد ونصَّب نفسه حاكمًا لولاية الشام ليكون أول حاكم عربي لولاية الشام بعد أربعمئة عام من حُكم العثمانيين، ولم يعارضه أحد لأنه كان يملك من السلاح والرجال والمال ما يجعل المدينة في حاجةٍ ملحَّة إليه. واستمر حكمه حتى وصول الجيوش العربية إلى دمشق برفقة الضابط البريطاني (توماس لورانس) المعروف بلورانس العرب، والذي قدم لتثبيت حكم الأسرة الهاشمية لولاية الشام، فبريطانيا كانت قد وعدت الأمير (فيصل) -قائد الثورة العربية- بتسليمه الحكم في دمشق.
ولقد حاول الأمير (سعيد) جاهدًا أن يكون خيرَ خَلَف لجدِّه (عبد القادر الجزائري)؛ قائد ثورة الجزائر ضد الفرنسيين والذي نُفِي إلى دمشق التي احتضنت الجد والحفيد وبايعتهما نظرًا لمواقفهم المشرفة في مقاومة الفرنسيين.
المنسية الثانية (التجربة الفيدرالية حزيران 1922).
قد تغيب عن ذهن كثير من السوريين التجربة السورية الفيدرالية في الحكم والتي كانت اقتراحًا مُقدمًا من المندوب السامي الفرنسي (غورو) عام 1922، وذلك بتقسيم سوريا إلى ثلاث دويلات صغيرة كلٌّ منها مستقل في حكمه مع نَقْل العاصمة من دمشق إلى حلب، ولكنَّ هذا النظام في الحكم لم ينجح لعدة أسباب أهمها أنَّه نظام غريب عن السوريين، إضافةً إلى أنَّ الحكومة الفرنسية لم تستشر السوريين في طريقة حكمهم لبلادهم، ولم تعامل الأقليات بصفتهم مواطنين عاديين لهم حقوقهم وعليهم واجبات، ولذا لم يعجب هذا النظام أيًّا من الأهالي؛ ممَّا دفعهم إلى الوقوف إلى جانب حركة دعت إلى إجهاض هذا الحكم.
ويرى الكاتب تشابهًا كبيرًا بين أحداث الماضي وما يجري اليوم فيقول في هذا السياق: "المطروح على السوريين اليوم فيدرالية حديثة دون ذكر كلمة فيدرالية وهم لا يعرفون طبعاً أن أجدادهم خاضوا التجربة ذاتها منذ أقل من مئة عام إلا أنها باءت بالفشل".
المنسية الثالثة (جامعة دمشق- حزيران 1923).
عدَّ الكاتبُ هذه المنسية الأحبَّ إلى قلبه؛ إذ تحدث فيها عن مراحل تشكُّل جامعة دمشق، فقد كانت نواة تأسيس الجامعة في عهد السلطان العثماني (عبد الحميد الثاني)، والذي أحب دمشق ولقَّبها كما لقَّبها العثمانيون (شام شريف) لقداسة تاريخها وعراقته، وقد أمر عام 1901 ببناء المعهد الطبي في دمشق في حي الصالحية لكي تكون بالقرب من السراي الحكومي في المرجة، وأقرَّ المعهد بمَنْح شهادتين هما شهادتي الطب البشري والصيدلة بمدة دراسة بلغت ست سنوات للشهادة الأولى وخمس سنوات للثانية، وتبع ذلك إنشاءُ معهد للحقوق ومقرُّه وزارة السياحة اليوم.
وأُعلن عام 1923 تأسيسُ الجامعة السورية لتكون ثالث أقدم جامعة بعد جامعتي القاهرة والجزائر، وقد خرَّجت هذه الجامعة التي يزيد عمرها عن مئة عام أهم الأطباء والعلماء والشعراء، ولكنَّ مستوى الجامعة أخذ بالتدني تعليميًّا ومؤسساتيًّا ولا سيما في أثناء الحرب، لذا يقول الكاتب في ذلك: "إن من يريد إعادة إعمار سوريا اليوم عليه أن يبدأ بجامعة دمشق ففيها المبتدأ والختام".
المنسية الرابعة (جمهورية الرئيس محمد علي العابد).
يُعدُّ (محمد العابد) أول رئيس للجمهورية العربية السورية، وسُمِّي شارع البرلمان بشارع العابد نسبةً إليه، وقد شكلت الجبهة الوطنية العداءَ تجاه حُكم (العابد)، والتي كان أهم زعمائها (إبراهيم هنانو).. وذلك بسبب تقرُّب الرئيس (العابد) من الفرنسيين ومدِّ يد العون والشكر لفرنسا؛ الأمر الذي أثار سخط الشارع السوري، فتبع ذلك تصعيد حكومة الانتداب للموقف عن طريق حملة من الاعتقالات والنفي والفوضى التي انتهت بفرض الجبهة الوطنية إضرابًا مفتوحًا لتُجبِر فرنسا على الاعتراف بالجبهة الوطنية مُمثلًا شرعيًّا للشارع السوري، وقد هز هذا الموقف منصب الرئيس (العابد)؛ ممَّا دفعه إلى تقديم استقالته.. ولكنَّ نهايته لم تكن كنهاية معظم رؤساء فترة الانتداب؛ مثل (أديب الشيشكلي) الذي قُتِل رميًا بالرصاص أو (شكري القوتلي) الذي نُفي، فقد عاش (العابد) مُكرمًا في منفاه الاختياري وقد تطرَّق الكاتب إلى الحديث عنه لأنَّه أول رئيس للجمهورية العربية السورية واحترامًا لذلك يجب ألا يُنسى.
وتتمثَّل غاية الكتاب في التطرُّق إلى قضايا مرَّت بها دمشق في الماضي لاستخلاص عِبَر تساعد في إيجاد حلول لواقعنا الحالي، إضافةً إلى أنَّ هذا التاريخ الذي يُنصف أهالي دمشق بتبيان مواقفهم المشرفة ووعيهم وقدرتهم على إدارة أمورهم الداخلية يستحق أن يبقى في ذاكرة السوريين.
معلومات الكتاب:
مبيض، سامي. تاريخ دمشق المنسي (2016). لبنان-بيروت: رياض الريس للكتب والنشر. عدد الصفحات: 318