البحث العلمي والمنهجية العلمية > البحث العلمي
مبادئ أخلاقية للتعامل مع حيوانات المخبر
أسهمت الحيوانات المستخدَمة في التجاربِ المخبريّة إسهامًا محوريًّا في عددٍ كبيرٍ من التطوّرات العلميّة في القرن العشرين ولا تزال مُستمرّةً في مساعدتنا على فهمِ الأمراض المختلفة، إضافةً إلى أنَّ استخدامها في الأبحاث التجريبيّة يوازي تطوُّر الطب منذ عهد (أرسطو وأبقراط) في الحضارة اليونانيّة القديمة من خلال معرفتهما ببنية جسم الإنسان ووظيفته تشريحيّاً، وإجراء Galen للتجارب الفيزيولوجيّة على الخنازير والقردة والكلاب، التي وفَّرت أساسًا للممارسات الطبيّة في القرون التالية، إلى أن توقَّف العلم التجريبيّ حتى بداية عصر النهضة عندما أخذ Vesalius المنهَج التجريبيّ بدءًا من الدراسات التشريحيّة. وفيما بعد؛ أجرِيت التجارب على الحيوانات في البداية دون مشكلات أخلاقيّة كبيرة بما يتوافق مع الفلسفة الديكارتيّة في القرن السابع عشر، ثمّ أسهم كلٌّ من اكتشاف التخدير وكتاب "أصل الأنواع" لـ Charles Darwin عام 1859 -بدفاعه عن أوجه التشابه البيولوجيّة بين الإنسان والحيوان- في زيادة التجارب على الحيوانات، ونشَر Claude Bernard كتابه "مقدمة في دراسة الطبّ النفسيّ" عام 1865 مُقدِّمًا المنهجيّة بوصفها أداة لتصميم التجارب الفيزيولوجيّة. وأسهمت فرضيّات Koch في تطوّر علم الأحياء المجهريّة Microbiology في زيادة استخدام الحيوانات، وزاد تطوير التخصُّصات الحيويّة مثل علم الأدوية وعلم السموم وعلم المناعة من استخدامِ الحيوانات في القرن العشرين بحِدّة، إلّا أنّه انخفض في بداية الثمانينيّات بسبب الوعي العام والتشريعات الصارمة بشأن استخدام الحيوانات، وتطوير لجان أخلاقيّات التعامل معها وتحسين جودتها، ثمّ عادَ إلى الزيادة مرةً أخرى في العقود الماضية نظرًا لتطوّر تجارب الحيوانات المعدَّلة وراثيًّا، التي تسبّبت في زيادة عدد فئران التجارب إلى أكثر من 23 ٪ سنويًّا، بسبب النموّ في عددِها في خلال البحث إضافةً إلى العدد الكبير من الفئران اللازمة لإنشاء كل سلالةٍ مُعدّلة وراثيًّا.
يُستخدَمُ اليوم ما بين 75 مليونًا إلى 100 مليون من الحيواناتِ الفقاريّة (أغبلها من الفئران والجرذان) سنويًّا في البحث العلميّ والاختبارات لمجموعةٍ واسعةٍ من الأهداف في مجالِ الأبحاث الدوائيّة واختبار اللقاحات وغيرها من الأبحاث البيولوجية وأبحاث السرطان، في حين يُستعمَل قرابة 30 ٪ من الحيوانات لأهدافٍ أخرى مثل الأبحاث الأساسيّة والتشخيص.
وفي الخمسينيّات من القرن العشرين؛ تزايدَ استخدامُ الحيوانات المخبريّة في مجالاتِ علوم الحيوان المخبريّة وبيولوجيّتها ومتطلّباتِها البيئيّة، وعلوم الوراثة والأحياء الدقيقة والوقاية من الأمراض وعلاجِها والتخدير وتسكينِ الألم والقتل الرحيم؛ مما أدّى إلى زيادةِ القلق والاهتمام بقضايا رعاية الحيوانات، فوُضِعَت قوانين تشريعيّة في العديد من البلدان، وأُنشِئت لجان أخلاقيّة لتقييم أساليب معاملة الحيوانات ضمن التجارب، وعلى سبيل المثال؛ أُبلِغ عن إجراء قرابة 2.7 مليون تجربة مخبريّة على الحيوانات عام 2003 في المملكة المتحدة، أي ما يُعادل نصف عددها قبل 30 عامًا. وصنَّف القانون في العديد من الدول الأوروبيّة مستوى عدم الراحة لدى الحيوانات المستخدَمة للتجارب في ثلاثة مستويات: بسيطة ومعتدلة وشديدة، إذ يُعاني 50٪ من حيوانات التجارب المخبريّة وسطيًّا إجهادًا بسيطًا (مثل أخذ عيّنة من الدم مرّة واحدة)، و30٪ بمستوىً معتدِل (عند الشفاء من عمليّات التخدير)، و20٪ ضمن المستوى شديد الإجهاد (عند الخضوع لاختبارات السمّيّة). ويعتمد تشريع استخدام الحيوانات في التجارب المخبريّة في المجتمعات الحديثة على فرضيّة قبوله أخلاقيًّا شرط تلبيتِه بعض الشروط المحدّدة (اللوجستيّة والتقنية) والتزامه المبادئ الأخلاقية، بما يتّفق مع مبادئَ ثلاثةٍ أساسيّة حدّدها كلٌّ من Russel وBurch عام 1959، التي تنصّ على ضرورة بذل كل الجهود للاستعاضة عن استخدام الحيوانات في التجارب وتقليل عددها -ما أمكن- ورعايتها. وبات ضروريًّا فيما بعد ترخيص التجارب المعتمِدة على الحيوانات بتقييمها أخلاقيًّا من قبَلِ لجان خاصة، إذ وضعت الرابطة الأمريكيّة لعلماء النفس جُملة مبادئ أساسيّة توجيهيّة للسلوك الأخلاقيّ في رعاية الحيوانات المخبريّة واستخدامها، نظرًا لأهميّتها في الأبحاث الحيويّة (البيولولجيّة والطبيّة)، وفائدتها للباحثين في تصميمهم الدراسات على مجموعة متنوّعة من الحيوانات. ويُمكن تبويبها باختزالٍ وفق الآتي:
1. مبرِّرات البحث:
يُمثلُ توضيحُ الباحثين للهدف العلميّ من اعتمادِهم على الحيواناتِ المخبريّة في أبحاثهم قبل استخدامها في تجاربهم النقطةَ الأساس الأهمّ، فمن الضروريّ أن يكون على درجةٍ محتملَةٍ من الأهميّة كافيةٍ لتبرير استخدام الحيوانات، ويجبُ تكوينُ توقُّعٍ معقول بزيادةِ البحث للمعرفة العلميّة بجوانبها المُختلفة من العلوم الحيويّة، وتقديمِه نتائج يمكن أن تحسّن جودة صحة الإنسان او رفاهيته أو صحة الحيوانات الأخرى، ويجب أيضًا التعمّق في فهم الأنواع المدروسة بعد التأكّد من أنّ الأنواع الحيوانيّة المُختارة لإجراء التجارب هي الأنسب للإجابة عن السؤال المطروح للبحث. وتجدُر الإشارة إلى أنّ التصميم التجريبيّ الجيّد للأبحاث يُساعد على تقليل عدد الحيوانات المُستخدَمة فيها، إذ تسمح للباحثين بجمع البيانات بأقلّ عددٍ مُمكنٍ من الحيوانات المطلوبة، مع مراعاة ضرورة استخدام عددٍ كافٍ منها لضمان صحّة النتائج والتحليل الإحصائيّ الدقيق، ومنع تكرار التجارب والحاجة المترتّبة على استخدام مزيدٍ منها.
2. الأفراد والباحثون:
يجب على الباحثين التأكُّد من أن جميع الأفراد الذين يستخدمون الحيوانات تحت إشرافهم لديهم المعرفة والتعليمات الواضحة في الأساليب التجريبيّة والرعاية والمحافظة والتعامل مع الأنواع الحيوانيّة المدروسة، التي يُمثلُ أهمَّها تعديلُ الإجراءات التجريبية ذاتيًّا وفق مجرَيات التجربة وتحسين إدارة الألم (التخفيف منه) باللجوء إلى التخدير ومسكّنات الألم المناسبة في خلال التجارب، إضافةً إلى تقييم تأثيرات المادة المختَبَرة على الحيوان. ويعدُّ التدريب الملائم جانبًا مهمًّا في تحسين الأبحاث على الحيوانات، وذلك بمراجعتها وتحسينها باستمرار.
3. بيئة الحيوانات ورعايتها:
عند تقديم ورقةٍ بحثيّةٍ أو بحثٍ مُعدٍّ للنشر تُراجِعُ لجنةٌ خاصّةٌ برعاية الحيوان جميع الإجراءات المتعلِّقة بالحيوانات، أو تُقدَّمُ مشورة من لجانٍ متعاونة بهدفِ التأكُّد من أنّ الإجراءات مناسبة وإنسانية. إذ تقع على عاتق الباحث تحت إشراف لجنة رعاية الحيوان مسؤوليّة المحافظة على حياة الحيوانات داخل وخارج سياق التجربة أو التدريس. وشرّعت بريطانيا والدول الأسكندنافيّة والعديد من الدول الأوروبيّة قوانين فعّالة بسبب محدودية عدد مؤسّسات البحث والباحثين في تلك البلدان نسبيًّا. ولا بُدَّ من التنبيه إلى أنَّ زيادة وعي الباحثين واهتمامهم بشأن المعاملة الأخلاقيّة لحيوانات التجارب يتمثّل بـ:
- تقليل عدد الحيوانات المستخدَمة في التجارب.
- عدم تكرار التجارب غير الضروريّة أو مضاعفتها.
- تقليل الألم والإجهادات في خلال التجارب إلى الحدّ الأدنى.
4. إجراءات التجارب:
يجبُ مراعاة المبادئ الأخلاقيّة والرفق في معاملة الحيوانات عند تصميم جميع التجارب وإجرائها، وخاصّةً في أثناء العمليّات الجراحيّة بالإشراف الدقيق من قِبَلِ الباحث المختصّ وتطبيق تقنيّات التعقيم على حيوانات المختبر كلّما أمكن ذلك، والمحافظة على الحيوانات تحت التخدير حتى إنهاء أيّ إجراءٍ جراحيٍّ لتجنيبِها الإجهاد والألم، مع التأكيد على عدم إخضاع الحيوانات لإجراءات جراحيّة متتالية إلّا إذا اقتضت طبيعة البحث أو طبيعة الجراحة أو صحّة الحيوان ذلك، وتخضع كلّ العمليّات الجراحيّة المتعدّدة على الحيوان نفسه لموافقة خاصّة من لجنة رعاية الحيوان.
- القوانين والتشريعات:
أسهمت منظّمات حماية الحيوان في وضعِ قوانين تشريعيّةٍ لحماية الحيوانات المستخدَمة ضمن التجارِب، وتبنّى برلمان المملكة المتحدة أول قانون عام 1876 (قانون القسوة على الحيوانات)، في حين أصدرت الدول الأوروبيّة وثيقتَين مهمّتَين تتحكّمان في استخدام الحيوانات في التجارب عام 1985.
ولا بُدّ من التنبيه لتعرُّض التجارب البحثيّة المعتمِدة على الحيوانات للنقد منذ بداية استخدامها، ويُركِّز النقدُ عمومًا على السؤال الأخلاقيّ عن مدى حقّ الإنسان في استخدام الحيوانات وعن موثوقيّة التجارب عليها وضرورتها. وقد أثبت التاريخ أنَّه لا يمكن ضمان الموثوقية، وقد لا تعطي التجارب المجراة على الحيوانات استقراءً موثوقًا بالنسبة إلى الإنسان، وعلى الرغم من سلسلة من التجارب على الحيوانات والدراسات السريريّة في البشر فقد يصعب أو يمتنع التعرُّف إلى الآثار الجانبيّة للعقاقير كاملةً بسبب انخفاض مُعدّل الإصابة أو الآثار غير القابلة للكشف في الحيوانات مثل الصداع البسيط أو الهلوَسة.
وعلى الرغم من عدم وجود حكم مُحدّد يتطلب إنشاء لجانٍ لمراجعة الجوانب الأخلاقيّة في التعامل مع الحيوانات في خلال التجارب فإنَّ هذه اللجان تعمل في العديد من الدول، وتتمثّل مهمّاتها في إجراء تقييم أخلاقيّ للمقترَحات البحثيّة المقدّمة، فقد تعدّ التجارب على الحيوانات مقبولة فقط إذا كانت فائدة التجربة المقترَحة تفوق معاناة الحيوانات مع التطبيق الشامل لكل الشروط الأخرى المذكورة أعلاه. ومن المرجّح أن تفيد المراجعة الأخلاقيّة للتجارب في تحسين جودة الأبحاث، نظرًا إلى أن رعاية الحيوان الجيِّدة هي شرط أساسي لتحقيق نتائج تجريبيّة موثوقة، فمن الأهمية بمكان البحث عن طرائق وإجراءاتٍ يُمكن أن تقلِّل من معاناة الحيوانات وتحميها.
المصادر: