كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (رجال التحري المتوحشون): أيقونة فريدة من الأدب اللاتيني
يقدم لنا الكاتب والشاعر (روبرتو بولانيو 1953-2003) عمله الأدبي، والذي يُعدُّ عملًا من بين أهم الأعمال في مسيرة الكاتب الأدبية، ويُعرَف عن الكاتب أنَّه فرض نفسه واحدًا من أبرز كتَّاب أمريكا اللاتينية الأشهر عالميًّا.
ويستعرض القارئ في خوضه هذا العمل أحداثًا تحاكي أبعاد الثقافة المكسيكية في مجملها بدايةً بأوضح التفاصيل حتى أكثرها غموضًا؛ لتكون الرواية أقرب إلى العمل اللاتيني الشامل من رؤية، والمُختص في الأدب المكسيكي من رؤية أخرى، فإنَّ تجربة (رجال التحري المتوحشون) تمرُّ في دول وقطاعات مكسيكية مختلفة؛ ممَّا يدفع العمل ليكون رحلةَ اكتشاف مصحوبة بأجواء الإثارة والمغامرة.
وتبرز للرواية سمات مميزة عدة، منها كثرة القصص المتفرعة والشخصيات المختلفة؛ ممَّا يدفع حبكة الرواية وتقنيات السرد تجاه مرحلةٍ تزيد عن سابقتها إثارةً، وهذا الاختلاف -في الوقت ذاته- في المناطق والشخصيات يدفع القارئ إلى التوسُّع في تفاصيل مكانية وزمانية وفكرية ليقابل أصوات متعددة تقدِّم رؤيتها وقصتها الخاصة منطلقةً من وعيها الخاص.
ومع تلك القصص الفرعية والانتقالات، كانت تتجلَّى الفكرة العامة للرواية شيئًا فشيئًا، والتي كانت توضِّح إرادة مجموعة من الرجال المكسيكيين (رجال التحري المتوحشون) في أثناء بحثهم عن كاتبة من أمريكا الشمالية طيلة عشرين سنة ضمن مناطق مكسيكية عديدة، ولعل أبرز ما تتشارك به الشخصيات كلها في الرواية -والتي تتصف بالكثرة والاختلاف كما ذكرنا سابقًا- هو النبض المميز في الميدان الأدبي والشعري؛ الأمر الذي يرتبط إلى حدٍّ ما بخلفية الكاتب الغنية بالشعر، ومن هنا يقدِّم المؤلِّف قطعةً أدبية تتناول نقاط القوة والضعف في الشعر المكسيكي.
بالإضافة إلى استشهاده بكمٍّ وفير من الشعراء ذوي الخلفيات الثقافية المختلفة، وكثيرٍ من المصادر والتعريفات الشعرية، وتناول كذلك عدة ظواهر وحركات شعرية بهدف عرض أفكار قد تشكِّل حلولًا لتعزيز مكانة الشعر المكسيكي، وأهمها ما يُطلق عليه (الواقعيون الأحشائيون)، وهي حركة تتكوَّن من مجموعة من الشعراء المكسيكيين والتشيليين الذين يهدفون إلى النهوض بالشعر اللاتيني إلى مصف الحداثة.
ويروي لنا الكاتب بعد هذا الحالَ التي ألمَّت بمؤسسي هذه الحركة ومن انتسب إليها، ويلتفت في أثناء هذا إلى فترات مجابهة الفرنسيين، وبعض من الأحداث السياسية المُقلقة التي واجهتها المكسيك، ولا بدَّ أيضًا من ذكر عامل إضافي قدَّم خصوصيةً كبيرة للرواية ألا وهو الابتعاد عن التركيز على شخصية رئيسة محددة؛ ممَّا يوضح تكوين الرواية المتعدِّد الأصوات (بوليفونية) في شخصياتها، فالراوي كان قد ركز على إحدى الشخصيات في التدوين ضمن القسم الأول من الرواية، ليذهب في القسم الثاني إلى شخصيات أخرى، وهكذا من شخصية إلى واحدة جديدة تشارك جميعها في أحداث فرعية حتى تلتقي مع بعضها في الحدث الرئيس للرواية.
ولم يقتصر العمل على عرض الثقافة المكسيكية على مستوى الداخل، بل انتقل مع المكان والزمان إلى وصف تلك الأمكنة التي زارتها الشخصيات المكسيكية، وما يسود خلف تلك الحياة من نهج وثقافة، وأبرز تلك الأماكن كانت فرنسا وإسبانيا ومن ثم الوصول إلى قارة جديدة، ألا وهي القارة الإفريقية، ويرافق هذه الرحلة وصفٌ عام للواقع الفقير ضمن القارة والتزعزع الأمني الذي حلَّ بها، ويُجسَّد ذلك عن طريق حوادث عدة تعرَّضت لها بعض الشخصيات التي انتقلت إلى تلك القارة في رحلة بحثهم.
وكان لذكر تل أبيب وحال بعضٍ من الشخصيات اليهودية -التي استطاعت تحقيق كمٍّ جيد من شخصيات العمل الأدبي- نصيبٌ بارز من الرواية، ومع ذلك فقد استطاع الكاتب الانتقال إلى التطرق إلى لمسات من الديانات المختلفة، فمن اليهودية إلى الديانة الإسلامية بمظهر حيادي وضيِّق الذكر.
وكان لقصص الحب نصيبٌ في الرواية أيضًا، فقد تجلَّت قصص حب عدة انتهت بمناحٍ مختلفة، وذِكرٌ لعلاقات متعددة أبرزها قصة حب بين أحد المُنتسبين إلى ظاهرة (الواقعين الأحشائيين) وابنة أحد أبرز الشخصيات الداعمة لتلك الظاهرة.
والذي يُزاد على هذا قصصُ صداقةٍ عديدة مختلفة في الجوهر، وتناولٌ للظروف الاقتصادية التي تتَّصف بها المكسيك، والحال المرافقة لهذا من انتشار للفاسدين على وجه الخصوص.
وقد نال هذا العمل الغني بأسلوبٍ سلس ومترابط ومتين على كلٍّ من جائزة (هِرالْدِ) للرواية، وجائزة (رومولو غايَغو) مُصنفًا على أنَّه واحد من ضمن أفضل الأعمال الأدبية التي كان قد قدَّمها الأدب اللاتيني.
معلومات الكتاب:
بولانيو . روبرتو. رجال التحري المتوحشون (2017). المترجم: عطفة، رفعت. بيروت - بغداد: منشورات الجمل. عدد الصفحات: 833