الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة اليونانية
أسطورة الكهف (Allegory of the Cave)
لعلَّ من أشهر ما أخرج الفيلسوف اليوناني أفلاطون (Plato) إلى النور: أسطورة الكهف (Allegory of the Cave) التي تظهر في الكتاب السابع من الجمهورية (Republic)؛ العمل الضخم الذي يبحث في أشكال الدولة المثالية وحاكمها المثالي الذي يكون فيلسوفًا في المقام الأول، يبرر أفلاطون إعطاء زمام الحكم للفلاسفة على دراسة مفصّلة للحقيقة والمعرفة، وقد وظَّف أسطورة الكهف في هذا السياق (1).
وتصوِّر الأسطورة جماعة من الناس أمضوا حياتهم كاملة في كهف تحت الأرض مكبَّلين بالأغلال، رؤوسهم مثبَّتة وموّجهة نحو الجدار الذي أمامهم مباشرة، وتشتعل النيران من ورائهم، وتعكس على الجدار من أمامهم ظلال الناس والأشياء الموجودة في الخارج، وهذه هي الأشياء الوحيدة التي يراها المساجين ويتحدثون عنها معتقدين أنها الحقيقة (1).
لاحقًا يتحرر أحد المساجين من قيوده ويبدأ في استكشاف الكهف، في البداية؛ يشدُّ النور انتباهه مسببًا له ألمًا في عينيه، ويبدأ تدريجيًّا في رؤية حال الكهف على نحو أفضل ويفهم منشأ الظلال التي انعكست على الجدار التي كان قد عدَّها حقيقية في السابق؛ فيدرك أنَّها لم تكن إلا وهمًا، وأخيرًا ينطلق خارج الكهف إلى العالم الخارجي الذي تضيئه الشمس؛ فيشعر بالدوار عند رؤيتها أول مرة، ومن ثمَّ يرى الواقع كاملًا يضيئه ألمع شيء في السماء؛ الشمس (1).
يقدِّم أفلاطون في أسطورة الكهف آراءه المتميزة عن الواقع وحدود معرفتنا به، ويتضح ذلك في الجزء الأخير من القصة؛ إذ تمثِّل عملية تحرير السجين من عالم الظلال وتوجيهه نحو النور ماهية الفلسفة ومَهمَّة الفلاسفة؛ فما إن يتحرر هذا السجين حتى تبدأ رحلته الفلسفية نحو الحقيقة -التي ترمز الشمس إليها- وهي ليست رحلة سهلة؛ إذ يتطلب الأمر الاعتياد على الضوء الساطع (الواقع) وعلى رؤية الأشكال الحقيقية للأشياء بعد أن كانت معروفة بالنسبة له بوصفها ظلالًا، وبعد أن يعتادها؛ فإنه يفضّلها على الظلال والظلام اللذَين تركهما وراءه، ويجد نفسه مُجبَرًا على العودة إلى الكهف مرة أخرى لمساعدة رفاقه على فهم حقيقة عالم الظلال الذي يقطنونه؛ لكنه يواجه مصاعب عدة عند عودته؛ إذ لم تعد عيناه ترى بوضوح في الظلام، ورفاقه الذين عاد من أجلهم يرون ما يقوله غريبًا وسخيفًا؛ لأنهم لم يمرُّوا بالتنوير الذي مرَّ به هو؛ ومن ثَمَّ عدَّوه مجنونًا، بل يرى فيه بعضٌ ممن يُشكِّل عالم الظلال مصدر قوتهم وسلطتهم مصدر خطر يجب السيطرة عليه واحتواؤه، وقد يلجأون إلى العنف أو القتل لإزالة هذا الخطر، وهي إشارة إلى ما مرَّ به سقراط مع النظام الأثيني (2).
قدَّم أفلاطون في أسطورة الكهف نظريته في المعرفة أيضًا، أو ما يُعرف بنظرية المُثُل (Theory of the Forms) ويرى أفلاطون بموجب هذه النظرية أن أفكارنا عن الأشياء توجد وجودًا حقيقيًّا في عالم المُثُل وهذه الأشياء هي نسخ في عالم الواقع؛ فنحن نفهم ونعرف الناس بوصفهم أفرادًا موجودين في العالم؛ لأن فكرة الإنسان موجودة وجودًا حقيقيًّا في عالم المُثُل، بعبارة أخرى؛ توجد أفكار أو جواهر (essences) للأشياء فيما وراء الموجودات التي نعرفها؛ في عالمها المثالي، الذي يجعلنا نعرف الأشياء ونشير إليها على أنها من نوع أو صنف محدد، وتمثِّل الظلالُ العالمَ الخارجي (الواقعي) الذي تجعله المثل مفهومًا لنا؛ وبذلك هناك عالَمان: عالم المُثُل (الذي توجد فيه الصور المثالية للأشياء) ويمثّل الحقيقة، وعالم الواقع أو العالم المرئي (وهو العالم الذي توجد فيه نسخ عن الصورة المثالية للشيء وهو العالم الذي نختبره ونعيش فيه) ويمثّل الزيف (2,3).
تقول بعض الافتراضات أنّه قد وُلِدَت فكرة أسطورة الكهف لدى أفلاطون في عمر مبكر جدًّا؛ عندما زار والداه كهف فاري (Vari) -أقرب الكهوف اليونانية إلى وصف كهف أفلاطون- لتقديم التضحيات لإله المكان بان (Pan) وللإله أبولو (Apollo) والحوريات (Nymphs)، وكان أفلاطون في صحبتهما عندما كان رضيعًا، وفي فترة لاحقة من حياته؛ كرر أفلاطون زيارة المعبد ذاته؛ لتتكوَّن لديه انطباعات أولوية غامضة مصدرها ذاكرته لأسطورة الكهف (3).
المصادر:
1- هنا 373 -374
2- هنا pp 7-8, 10-12
3- هنا