كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (بيدرو بارَّامو): الاستماع إلى همسِ الموتى
إنَّ الواقعية السحريةفي رواية (بيدرو بارَّامو) تنبثق من بين العظام والتوابيت الباردة؛ تلك التي تحفظ قصصَ الحب والقهر والندم التي تُحكى من ألسنة الموتى وتراكض الأزمنة، فحين يُقرأ هذا العمل يتخابط سؤالان في النفس قبل غيرهما: هل المُتحدِّث على قيد الحياة أم هو روحٌ أضاعت سبيلها تجاه السماء لأنَّها لم تجد من يغفر لها؟ وما هو الفرق بين الحياة والموت في مدينةٍ يتلاقى فيها همس الموتى مع صراخ الأحياء، ويتلاقى فيها الماضي مع الحاضر؟!
فإنَّ انسجام اللغة الساحرة واستبسالها في هذا العمل قد جسَّد حالةً من انتشال المشاعر من باطن القرَّاء ونثرها على الورق وبين شخصيات الرواية الأساسية منها والثانوية، وحينها ينتقل القارئ من جملة إلى أخرى وهو يتذوق الواقعية السحرية وما حرَّكت في مآرب نفسه، وإنَّ هذا الـ(تذوُّق) لا يستند إلى وضوحُ السرد الكلاسيكي أو وضوح جوهر العمل ومغزاه، بل إلى غموضه وقابليته ليُنْظَر إليه بأكثر من عين وأكثر من تفسير، فإنَّ ما جعل من هذا العمل مثيرًا هو نزعة الإنسان تجاه الغموض والعتمة والتأنيب والندم وطلب المغفرة بعد الموت.
في مدينة الأرواح الهائمة
تبدأ الرواية حين ينطلق (خوان بريثيادو) في رحلة بحثٍ بين عالمين يصعد واحد منهما إلى الحياة ويهبط الآخر إلى الموت والهمسات والذكريات وبقايا الأرواح الهائمة (مدينةُ كومولا)، فقد كانت هذه الرحلة وصية والدته الميتة؛ إذ قالت له: "هناك ستسمعني بصورة أفضل، وسأكون قريبة منك أكثر، ستجد صوت ذكرياتي أقرب إليك من صوت موتي، هذا إذا ما كان للموت صوت في يوم ما".
وفي بداية رحلته تجاه (كومولا ) تقول له أحد الشخصيات الثانوية (البغَّال) حين سألها عن المدينة: "إنَّها عالم الأموات يا سيدي، والخروج من (كومولا) ممكنٌ فقط بالاتكاء على الحلم والذكرى بصورة مؤلمة".
إذًا، فإنَّهما عالمان من الواقع والشعوذة، وقد تكون شعوذةً حقيقةً أو يكون الواقع هو الشعوذة! لا يمكن تحديد ذلك بدقة في عملٍ أخذ من جنس الواقعية السحرية سبيلًا يسردُ به الحوارات والأحداث في قصصٍ تتالى صعودًا وهبوطًا، وإنَّ ما قد يزرعه العمل في النفس ما هو إلا غربالٌ تسقط به الكلمات والمشاعر، فيهتزُّ ليفصلَ الواقع عن السحر، والحياة عن الموت، والمغفرة عن الندم، فنحن في هذا العمل نغربلُ أنفسنا مع المؤلِّف خوان رولوف (1986-1917 Juan Rulfo)، ونخرج مخاوفنا مع همس الأموات.
بحثٌ عن (بيدرو بارَّامو) أو هيامُ روحِ (خوان بريثيادو)؟
"أمي التي عاشت طفولتها وأفضل سنوات عمرها في هذه القرية، والتي لم تتمكن حتى من المجيء للموت هنا، بل بعثت بي أنا بدلًا من أن تأتي بنفسها".
لا تخلو الرواية من الصعوبة في رحلة البحث التي انطلقت منها بعد الصفحات الأولى، وخاصةً مع تداخل كمٍّ من الشخصيات الثانوية والأزمنة في السرد وعدم اعتماد المؤلِّف على تقسيم الفصول، وربما تمتد هذه الصعوبة إلى الضياع بين نوعية الحوارات وتداخل الشخصيات والانتقالات السردية غير المحكومة في زمن واحد، وهذا -حسب رأي بعض القرَّاء- من أهم سمات الواقعية السحرية التي تُضفي على العمل الأدبي جماليةً وعمقًا يتجاوز تيار سرد الأحداث الواضح والمقسَّم، بل إنَّ الأحداث هنا مثل الدخول إلى غرفة مظلمة، لا نرى التفاصيل في البداية، ولكن؛ سرعان ما تتَّسع حدقة العين، وسرعان ما نعاين تلك الغرفة؛ وهذا ما يحدث عند قراءة آخر كلمات حوارٍ ما في الرواية تحديدًا.
ونذكر أيضًا بأنَّ المؤلِّف (خوان رولوف) يتكلَّم هنا بألسنة أرواحٍ منها من عاش في وهمٍ غريب وماتَ حُزنًا، ومنها من عاش وحيدًا حتى صار مثل تربة عفنة، ومنها من مات وهو ينتظر، وكثير غيرهم ممن كان لهم قصصٌ شهدت عليها تلك المدينة، ولهذا فإنَّ غرابة الأحداث والحوارات لا تنسلخ عن روح أولئك الأحياء الأموات المتأرجحين بين دفتي الرواية وبين أصوات الهمس:
"لا يمكن تقدير الصوت الذي أحدثته تلك الصرخة، وكأنما الأرض قد أُفرغت من هوائها، لا وجود لأي صوت، حتى ولا صوت نَفَس، كأنَّ صوت الضمير نفسه قد توقَّف".
عقاب (بيدرو بارَّامو):
وهنا يبقى السؤال الذي نتركه للقارئ كي يبحث عنه في سراديب (كومولا)، من هو (بيدرو بارَّامو)، وكيف عاقب المدينة، وكيف عاقبهُ الحزن؟
وننهي هذه المراجعة المقتضبة بحوارٍ من حوارات الأحياء والأموات التي وردت في الرواية تعبيرًا عن سجن الأرواح المذنبة التي لم يغفر أحدٌ لها:
- وروحك؟ أين تظنين أنَّها ذهبت؟
- لا بد أنَّها تهيم على الأرض مثل أرواح كثيرة أخرى، تبحث عن أحياء ليصلُّوا من أجلها، ربما إنَّها تكرهني للمعاملة السيئة التي عاملتها بها، ولكن هذا لا يقلقني، لقد استرحت من عادتها الذميمة بالتأنيب، فقد كانت تملأ بالمرارة حتى القليل ممَّا كنت آكله.
عن الكاتب:
ولد (خوان رولفو) في مقاطعة خاليسكو المكسيكية عام ١٩١٨، وتوفي في مدينة مكسيكو عام ١٩٨٦.
وقد عاش في طفولته الانتفاضات الفلاحية التي عصفت بالمكسيك، وكانت أشد عنفًا في مقاطعته منها في مناطق البلاد الأخرى، وكان لهذه التجربة أثر كبير في تكوينه الأدبي اللاحق.
وقد توفي أبواه منذ طفولته المبكرة، فعاش عدة سنوات في ملجأ للأيتام، واضُّطر إلى العمل منذ سنوات صباه.
وبدأ حياته الأدبية بالكتابة لمجلة (خبز) التي كانت تصدر في مدينة (غوادي لاجارا) حيث ظهرت قصصه الأولى.
وعكس في قصصه حياة الفلاحين البائسة والموحشة في مقاطعة خاليسكو حيث الأرض الجافة القاحلة، وصراع أولئك الفلاحين في سبيل الحياة تحت ظروف قاسية من الظلم الاجتماعي.
وعلى الرغم من أنَّ (رولفو) لم يكتب سوى رواية واحدة ومجموعة قصصية تضم خمس عشرة قصة قصيرة، فإنَّه قد برز بصفته أحد ممثلي الرواية الأمريكية اللاتينية المعاصرة (1).
معلومات الكتاب:
رولفو، خوان. بيدرو بارَّامو. (2013). ترجمة: علماني، صالح. (ط.1). المملكة العربية السعودية-الدمام: أثر للنشر والتوزيع.
المصادر:
1- قصص من أمريكا اللاتينية. (2012). مجلة آفاق ثقافية؛ العدد (106). ترجمة: صالح علماني. سورية-دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة. صـ 56