التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية
الباستيل.. قصة السجن الذي غدا رمزاً للحرية
غيَّرتِ الثورةُ الفرنسية -أكثرَ من أي حدث في القرن الثامن عشر- وجهَ السياساتِ الحديثة عبر أوروبا والعالم؛ إذ إنها أطاحت بالنظام الفرنسي ذي الحكومة الملكية، وأدخلت أفكارَ الحرية والمساواة والتآخي والحقوق الإنسانية والمدنية إلى مجالات السياسة الحديثة. وساعدت الثورة الفرنسية أيضًا على إعلان الدولة الحديثة، وأصبحت أنموذجاً للتغيير السياسي الثوري الذي سار على نهجه العالم ابتداءً من أوروبا وأمريكا اللاتينية وروسيا وانتهاءً بشرق آسيا. وقد انطلقت الثورة الفرنسية في إحدى ليالي شهر تموز/ يوليو عندما أسقط سكان باريس حصناً قوطيَّاً يعود للقرن الرابع عشر والمعروف بـ(سجن الباستيل).
ولكن قبل أن نتابعَ أحداثَ الثورة الفرنسية، دعونا نتعرف سجنَ الباستيل الذي كان واحداً من الأسباب الرئيسة لتفجُّرِ الثورة.
سجن الباستيل
الباستيل هو حصنٌ يعود للعصور الوسطى، يتموضع على الجانب الشرقي من باريس الذي أصبح بين القرنين 17 و 18 سجناً فرنسيَّاً ومكاناً لاحتجاز الشخصيات المهمة المتَّهمة بجناياتٍ مختلفة. كان الباستيل -الذي اقتحمه حشدٌ مسلَّح من عامة الشعب الباريسي في الأيام الأولى من الثورة الفرنسية - رمزاً للحكم الاستبدادي لملكية عائلة البوربون*، واستحوذ على مكانٍ مهم في فكر الثورة.
بأبراجه الثمانية البالغِ طولها 30 متراً التي تصلها جدرانٌ متساوية الارتفاع، مُحاطَةً بخندقٍ مائيٍّ بعرضٍ أكثرَ من 24 مترًا، سيطر الباستيل على مدينة باريس. وقد بدأ البناء فيه في الثاني والعشرين من نيسان عام 1370 بأمرٍ من "تشارلز الخامس"* الذي بناه على شكل bastide (قلعة)، أو حصن (الاسم باستيل هو تحوير لكلمة Bastide) من أجل حماية باريس من هجوم إنكليزي. وفي الحقيقة، كان سجن الباستيل بالأصل بوابةً منيعة، ولكن "تشارلز السادس"* حوّله حِصناً وذلك بسد الفتحات. وفي عام 1557 أُنجِزَ النظامُ الدفاعي، وذلك بإنشاء برجٍ بارز على الخاصرة الشرقية، وفي القرن السابع عشر بُنِيَت قطعةٌ مستعرضة قسَّمت الفناء الداخلي إلى أجزاءَ غيرِ متساوية.
كان "كاردنيال ريشيليو - Cardinal de Richelieu"* أول من استخدم الباستيل سجناً، وفي القرن 17 كان المتوسط السنوي لعدد السجناء 40 سجيناً أُدخِلوا بأمرٍ ملكيّ لا عودة عنه يُدعى *(lettre de (cachet. غالبًا ما كان السجناء من مفتعلي البلبلات السياسية أو الأفراد المحتجَزين بناءً على طلب من عائلاتهم لإجبارهم على الطاعة أو منعهم من تشويه سمعة العائلة. وفي صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1789 عندما كان في البناء سبعة معتقلين فقط، تقدم حشدٌ إلى الباستيل بنية الطلب من آمر السجن "برنار جوردان - Bernard Jordan" تسليمَهمُ الأسلحةَ والذخيرة المخزَّنةَ هناك. وقد اقتحم الناس وأسقطوا السجن بسبب غضبهم من مناورة آمر السجن وخداعه. ومثَّلتْ هذه اللحظةُ الدراماتيكية نهايةَ النظام القديم. ولاحقاً؛ هدمت الحكومة الثورية تدريجياً سجن الباستيل.
والآن لنعد إلى تفاصيل الثورة الفرنسية وأسبابها، وماذا قدمت للعالم.
في صيف عام 1789، كانت باريس تغلي، إذ كان الناس يعانون نقص الطعام وثِقَلَ الضرائب التي اعتادوا دفعها بسبب ديون "لويس الرابع عشر" الكبيرة، إضافةً للاضطراب السياسي غير المسبوق الذي سببه افتتاح مجلس البرلمان الفرنسي أول مرة منذ أكثر من مئة سنة. سببٌ آخرٌ أغضبَ الباريسيين؛ هو إقصاء الوزير المحبوب Jacques" "Necker في الحادي عشر من تموز. أما العامل الحاسم فكان حشد "لويس الرابع عشر" للجيوش حول باريس منذ بداية حزيران/يونيو عام 1789. وقد حرَّضَ الإحساس بالخطر من عسكَرة المدينة على انطلاق مظاهرة إلى مجمع (Hôtel des Invalides)، حيث نهب المتظاهرون قرابة 3000 بندقية وخمسة مدافعَ، ولكن كانت الأسلحة تلك بحاجةٍ إلى البارود الذي كان مخبَّأً في سجن الباستيل.
بعد أن وصل المتظاهرون إلى السجن وتفاوضوا مع آمر السجن، اقتحموا الفناء الخارجي واندلعت معركةٌ عنيفةٌ انتهت بتحرير السجناء المعتقلين في الباستيل، وأُسِرَ آمرُ السجن الذي قُتِلَ وقُطِعَ رأسُه مع ثلاثة من ضباطه، إذ جالت الحشود الغاضبة برؤوسهم المثبَّتة على رماحٍ في الشوارع. وقد كانت نتيجة الاقتحام باهظةً؛ إذ قُتِلَ قرابة مئة مواطنٍ وثمانيةٌ من حراس السجن. وقد حدث كل هذا في الرابع عشر من تموز الذي أصبح يُعرَفُ في فرنسا وجميع أنحاء العالم منذ ذلك الحين بـ(يوم الباستيل).
وبعد سماعه بسقوط الباستيل، سأل "لويس الرابع عشر" الدوقَ "Duc de La Rochefoucauld": "إذن هل هناك تمرد؟"، وأجابه الدوق: " لا سيدي، إنها ثورة!".
مثل الكثير من الأحداث الثورية، كان اقتحام الباستيل عفوياً لم يُقصَدُ منه أن يكون ثورةً، إلا أنه غدا لحظةً جوهريةً في نشر الثورة الفرنسية، والشرارة التي أجبرتِ الملك على البدء في التنازل، وغدا اقتحام السجن أيضاً تشجيع للناس على الحراك من أجل الإطاحة به وإنهاء الملَكَية إلى الأبد.
خلال القرن التاسع عشر أصبح اقتحام الباستيل موضوعاً لتدوينات المؤرخين ورسوم الفنانين واحتفال الشعب؛ إذ جعل الفرنسيون عام 1880 يومَ اقتحام الباستيل عطلتَهم الوطنية. ومن بين جميع انتفاضات الثورة الفرنسية 1789- 1871، كانت أحداث الرابع عشر من تموز استرجاعاً لقوة الشعب الذي أطاح بالحكومة الاستبدادية ووضع نهايةً للحكم التعسفي.
لم يكن الباستيل سجنًا فقط في عام 1789، بل كان أرشيفاً لوثائق البرلمان وعائلة الملك وشرطة باريس. وقد نُهِبَت وبُعثِرَت وأُحرِقَت أجزاءٌ كبيرةٌ من الأرشيف خلال اقتحام الباستيل، ولكن استُرجِعَ الكثير منها بجهود الكاتب المسرحي والدبلوماسي الفرنسي "Beaumarchais"، والدبلوماسي الروسي وهاوي الكتب "Pierre Dubrowsky". وناشدت حكومة (كومونة) باريس المواطنين أن يعيدوا أية وثائق بحوزتهم من أجل المساعدة على توثيق المحاكمات المستقبلية للعائلة الملكية. وقد استجاب الناس لمناشدة الحكومة وأعادوا 600000 وثيقة.
أخيراً، فإنَّ سكان باريسَ لم يسقطوا فقط سجناً في الرابع عشر من تموز، وإنما شاركوا في كتابة تاريخهم، فكان اقتحام الباستيل سابقةً لجميع الثورات في العصر الحديث.
الهوامش:
1- أسرة البوربون: إحدى أهم الأسر الحاكمة في أوروبا، ينحدر أفرادها من "لويس الأول"، دوق بوربون من عام 1327 إلى 1342، حفيد الملك الفرنسي "لويس التاسع" (حكم 1226-1270). حكم ملوك هذه الأسرة فرنسا من 1589 إلى 1792 ومن 1814 إلى 1830.
2- "تشارلز الخامس - Charles V" (من مواليد 21 كانون الثاني 1338). ملك فرنسا من عام 1364 الذي قاد البلاد في فترة التعافي المذهلة من الدمار جرَّاءَ المرحلة الأولى من حرب المئة عام (1337-1453)، وأبطل التسوية الأنجلو-فرنسية المأساوية عام 1360.
3- "تشارلز السادس - Charles VI": وُلِدَ في كانون الثاني عام 1368 في باريس ومات في تشرين الأول من عام 1422. ملك فرنسا الذي على الرغم من حكمه الطويل الممتد بين 1380 حتى 1422، إلا أنه لم يكن أكثر من رئيسٍ صُوْرِيٍّ بسبب صغر سنه عند وصوله إلى العرش أولاً، وبسبب نوبات الجنون الدورية التي كانت تأتيه آخرا.
4- "Cardinal de Richelieu": الكاردينال من مواليد 9 أيلول 1585، وتوفي في 4 كانون الأول 1642 في باريس. رئيس الوزراء للملك لويس الثالث عشر في الفترة من 1624 إلى 1642. كان يهدف إلى إنشاء الحكم الملكي المطلق في فرنسا ونهاية الهيمنة الإسبانية (هابسبورغ) في أوروبا.
5- "letter de cachet": رسالةٌ موقَّعَةٌ من الملك ووزير الخارجية، واستُخدِمَت في المقام الأول من أجل إعطاء السلطة لسجن شخصٍ ما. لقد كانت أداةً مهمة للإدارة في ظل النظام القديم في فرنسا، وأُسِيءَ استخدامها إلى حدٍ كبير خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ إذ ظهرت شكاوى عديدةٌ على هذا الموضوع في قائمة المظالم التي قُدِّمَت إلى العقارات العامة عام 1789.
المصادر:
1- هنا
2- هنا