كتاب > مفكرون وكتّاب
محمد الماغوط؛ ومضات من حياته وشعره
"مخذول أنا لا أهل ولا حبيبة/ أتسكع كالضباب المتلاشي/ كمدينة تحترق في الليل/ والحنين يلسع منكبيَّ الهزيلين/ كالرياح الجميلة، والغبار الأعمى/ فالطريق طويله/ والغابة تبتعد كالرمح" (1).
إنّها الكلمات المبدعة المحمولة على "جناح الكآبة" لمحمد الماغوط؛ الشاعر والأديب السوري الفذّ الذي يُعدُّ أبرز روّاد قصيدة النثر العربية بل عدّه كثيرٌ من النقاد أبًا روحيًّا لها (2). وقد عُرِف محمد الماغوط بالأديب الساخر أيضًا، وكان أغلب أدبه يدور في فلك الواقع المأساوي الذي طوَّق الإنسان في البلاد العربية، جاعلًا همه الأول تصوير هذه المعاناة، فمنها ما كان شعرًا أو مسرحًا (مسرحية غربة) أو عملًا تلفزيونيًّا (حكايا الليل) أو فيلمًا (الحدود) أو اسکتشات تلفزيونية أو مقالاتٍ في الصحف.
في ذكرى وفاته الرابعة عشرة نضيء لكم بعض الومضات من حياته وشعره، وسنفرد أعمالًا أُخرى في المستقبل لإرثه الشعري والسردي.
استطاعت الحداثة الشعرية أن تجدد في منظومة القيم الجمالية للفن، فكان الفن نتاج الوعي السائد للبنية المجتمعية، أي إنه انعكاس للوعي الجمالي المجتمعي (3)، وقد مثّل "محمد الماغوط" أبرز شعراء هذا الحداثة بأسلوبه الشعري، وتميَّز الماغوط بأنه الأديب الواقعي الساخر أيضًا، الذي كان يمثِّل المأساة التي يعيشها المواطن أو الإنسان في البلاد العربية، فجُلُّ قضاياه اجتماعية تركز في كينونة الإنسان واحتياجاته الأولية المفقودة غالبًا (3).
ولد محمد الماغوط في عام 1934، في مدينة سلميَّة السوريَّة، التي عاش فيها طفولته وتركت فيه أثرًا عميقًا (2,8) وقد كتب عنها قصيدة في مجموعته "الفرح ليس مهنتي" يقول فيها:
"سلمية، الدمعة التي ذرفها الرومان
على أول أسير فكَّ قيوده بأسنانه
ومات حنينًا إليها
سلمية .. الطفلة التي تعثَّرت بطرف أوروبا
وهي تلهو بأقراطها الفاطمية
وشعرها الذهبي" (1).
وقد أحبَّ اللغة العربية منذ صغره على الرغم من أنه ترك المدرسة لاحقًا بسبب فقره، وقد حاول أن يكتب في بواكير عمره، ثم إنّه حاول في الرسم أيضًا (4).
انتسب إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي عندما كان شابًّا، ويعزو انتسابه إلى الملل الذي كان يعتريه في تلك الفترة، وقد سُجن بعد ذلك ستة أشهر بسبب الصراع السياسي في سورية آنذاك، ويرى الماغوط أنَّ دخوله للسجن هو الوازع الأول لانفتاحه على الشعر، وبعد خروجه من السجن بدأ ينشر شعره في جريدة "النقاد" الدمشقية، وقد سمع به الشاعر نزار قبَّاني وأراد لقاءه لإعجابه بشعره (4,8).
وبعد فترة انتقل إلى بيروت لأن الوضع السياسي كان قد احتدم في سورية، وتوطدت علاقته بالشاعر أدونيس وزوجته خالدة سعيد وتعرّف إلى أختها سنية صالح التي أصبحت زوجته فيما بعد (4)، وقد قدَّمَه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة "شعر" التي كانت مكتظة بالوافدين، "وقرأ بعض نتاجه الجديد الغريب بصوت رخيم دون أن يعلن عن اسمه، وترك المستمعين يتخبطون (بودلير؟..رامبو؟..) لكن أدونيس لم يلبث أن أشار إلى شاب مجهول، غير أنيق، أشعث الشعر وقال (هو الشاعر...)" (1,2)، وقد اكتسب شهرته بعد ذلك وبدأ ينشر في مجلة شعر (صاحبها ورئيس تحريرها يوسف الخال)، وقد كانت قصيدته "حزن في ضوء القمر" هي الشرارة التي كرَّسَت شاعرية الماغوط (4)، يقول فيها:
"أيها الربيع المقبل من عينيها
أيها الكناري المسافر في ضوء القمر
خذني إليها
قصيدة غرام أو طعنة خنجر
فأنا متشرد وجريح" (1).
واشتُهر بكونه الشاعر أو الأديب الواقعي؛ إذ قد كان لأدبه سمة عامة تُدرج تحت تصوير الواقع الذي يعيشه الناس أكثر من أي شيء آخر، فكان الثائر على حال المواطن والإنسان غالبًا (4)، فمثلًا لدينا قصيدة "القتل" في مجموعته "حزن في ضوء القمر" يصوّر فيها الظلم والخوف والمواجهة قائلًا:
"ضع قدميك الحجرية على قلبي يا سيدي
الجريمة تضرب باب القفص
والخوف يصدح كالكروان
ها هي عربة الطاغية تدفعها الرياح
وها نحن نتقدم
كالسيف الذي يخترق الجمجمة" (1).
لم يكتفِ الماغوط بالشعر ليكون صوت واقع الإنسان، بل كتب مقالات في جرائد ومجلات عدة (مثل مجلة شعر، وصحيفة تشرين السورية، وغيرها)، إضافة إلى المسرحيات والاسكتشات التلفزيونية والأفلام والمقالات التي أُدرجت تحت مفهوم القصص القصيرة (4).
أول مجموعة شعرية له عنوانها "حزن في ضوء القمر" نشرها في عام 1959، يليها "غرفة بملايين الجدران"، أما الأخيرة فهي "الفرح ليس مهنتي"، ومن أعماله النقدية الساخرة (سأخون وطني)، ثم اتجه في السبعينيات إلى المسرح فكانت مسرحيته الأولى "العصفور الأحدب"، وتلا ذلك عدة أعمال أهمها: "ضيعة تشرين" (بعد حرب 6 تشرين الأول "أكتوبر" 1973)، و"غربة"، و"كاسك يا وطن" و"شقائق النعمان". وقد مُثلت جميعها على المسرح وكان الفنان السوري دريد لحام بطلها، وكتب الماغوط عدّة مسلسلات أيضًا؛ منها: "حكايا الليل"، و"الغربال" (التي صرح الماغوط أنها نالت إعجاب نهاد قلعي وحولها دريد لحام فيما بعد إلى "صح النوم") وكتب سيناريوهات أفلام "الحدود" و"التقرير" و"المسافر" (4,8).
وقد تميَّز الماغوط بشعره الذي سمّاه بعض النقاد والدارسين شعرًا منثورًا (5) أو نثرًا لأنه تخلَّى عن الوزن والقافية، لكنَّ "خزامى صبري" ترى أنه شعر في قصيدة نثرية؛ فالشعر عندها لا علاقة له بالوزن والقافية (6)، وذلك لاعتبارات منها الصورة الشعرية التي ظهرت في قصائده، الصورة الغريبة التي ربطت الحسية بالشكلية، وقد رأتها الوسيلة الرئيسية في شعره (7).
ووصفت نازك الملائكة "خواطرَه" بقصيدة النثر، لأن الشعر عماده الأساسي الوزن والقافية -كما تقول- والموسيقا قد ارتبطت بالشعر لا بالنثر، ولا يعيب النثر كونه نثرًا بل إنَّ له صفاتٍ يُمتدح بها (6).
أما محمد الماغوط نفسه فقد سمّاه شعرًا فحسب، حذِرًا من الدخول في جدل المصطلحات، بل شعر فحسب؛ كما صرح بنفسه، ويعزو ذلك إلى أنه يرى فيه صوتًا شعريًّا قوامه الواقعية أولًا، واستعمال الصورة بشكلها المبهر المتكرر، مع رفضه استعمال الوزن والقافية والموروث الشعري، ليخلقَ إيقاعًا خاصًّا يستخرجه من سبكه الجملة، مبتعدًا عن الحشو واللغو (4)، ويقول في تصريحات أخرى إنّه لم يختر قصيدة النثر بل هي اختارته ولا يعرف التنظير لها (8)، وهو مع ذلك يذكر أيضًا أنَّ "قصيدة النثر هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائمًا على القسوة والغطرسة اللفظية، كما أن هذه القصيدة مرنة وتستوعب التجارب المعاصرة بكل غزارتها وتعقيداتها" (8).
ولشعره طابع تراجيدي يطرح فيه الواقع الاجتماعي بأجوائه المؤلمة، وقد صوَّر الانكسارات التي يعيشها البطل الثوري الذي كان تصويرًا عامًّا للواقع الإنساني، ولم يقتصر على التراجيدي العام بل كان يصور العذاب الإنساني متمثلًا القيم الروحية والنفسية للإنسان؛ إذ إنَّ الأجواء التراجيدية والعذابية في شعره تقدم صورة سلبية للواقع (3)، ومثال ذلك قوله في قصيدة "إلى عتبة بيت مجهول":
"نامي تحت الأعلام الممزقه
أيتها الحمامة المنسيّه
الوحل يتهادى كالأمير
يتألق على سرجه الذهبي
والشتاء الأخير
ينحني كالمتسول على أقدامك يا بردى" (1).
فقد تميَّز هذا المقطع بالنمط التراجيدي وهو صورة تراجيدية للواقع الاجتماعي تميَّزت بها القصيدة الحداثية، فكان موقفه الجمالي ذا بعد أيديولوجي للواقع (3).
نال الماغوط عدة جوائز؛ منها جائزة جريدة النهار لقصيدة النثر عام 1958، وجائزة السلطان عويس الثقافية من دولة الإمارات عام 2005. ونال "وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى" بمرسوم رئاسي جمهوري في سورية عام 2002 أيضًا (8).
توفي محمد الماغوط في عام 2006 (2,8) بعد أن حمل في جوارحه طوال حياته المأساةَ الإنسانية ليظهرها بشكلها الواقعي في أدبه ويضفي عليها من خيالاته المبدعة وفهمه العميق للإنسان وصراعاته ويوظّف أسلوبه التهكمي الساخر في أغلب النصوص، ليصبح صوت الإنسان المقهور في هذا المشرق والعالم. وفي هذا تقول الشاعرة سنية صالح؛ محبوبته التي رحلت قبله فكانت إحدى الانكسارات التي أثَّرت فيه: "مأساة محمد الماغوط أنه وُلد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط ومنذ مجموعته الأولى (حزن في ضوء القمر) وهو يحاول إيجاد بعض الكوى أو توسيع ما بين قضبان النوافذ ليرى العالم ويتنسم بعض الحرية" (1).
رحل محمد الماغوط ولكنّنا "إذا ما استعملنا ضوء الذاكرة وجدنا أن محمد الماغوط في وجه من الوجوه هو جزء من المستقبل" (1).
المراجع:
1- الماغوط، محمد. (2006). الأعمال الشعرية. (ط. 2). دمشق: دار المدى.
2- دندي، محمد إسماعيل. (2008). الحداثة: حداثتنا الشعرية: مفهومها وإشكالاتها. (ط2). دمشق: دار معد.
3- كليب، سعد الدين. (2010). وعي الحداثة، (ط. 2). دمشق: دار الينابيع.
4- أبو شنب، عادل. (2005). "حوار العدد-محمد الماغوط أمير الشعر الطلق". سورية: مجلة المعرفة. العدد 500.
5- الجيوسي. سلمى الخضراء. (2007). الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث. ترجمة لؤلؤة، عبد الواحد. (ط. 2). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ص 695.
6- الملائكة، نازك. (1983) قضايا الشعر المعاصر. (ط. 7). بيروت: دار العلم للملايين.
7- صبري، خزامى. (1959). حزن في ضوء القمر محمد الماغوط. بيروت: مجلة شعر. العدد 11.
8- القيّم، علي. (2006). محمد الماغوط العاشق المتمرد. دمشق: منشورات وزارة الثقافة.