الفلسفة وعلم الاجتماع > علم المنطق والأبستمولوجيا
الموضوعية العلمية
عند طرح الموضوعيّة العلمية (Scientific Objectivity) للنقاش؛ ترتبط عادةً بشخص العالِم، ليُناقش إذا ما كانت بعض العوامل المؤثّرة في حياته الشخصية تؤثّر تأثيرًا ما في عمله العلمي، وتُناقش عادةً وجهات النظر الأخلاقية المتعلقة بالعالِم، وتختلف عن تقييم الأخلاق الشخصية الخاصة بالعالِم بوصفه إنسانًا؛ إذ تُعدُّ هذه الشؤون ملكه ولا يُمكن التدخل بها؛ أما إذا بدأت هذه العوامل الأخلاقية بالتأثير في عمله العلمي؛ فيجب أن يؤخذ هذا العامل بالحسبان عند الاعتماد على نتائج أبحاثه.
وتُرجَع هذه المناقشات إلى المنهج العلمي لِتحليل إذا ما كانت الطرائق والأدوات المستعملة في البحث العلمي موضوعية أم لا، وهنا يأتي مصطلح (الموضوعية) (Objectivity)؛ إذ تُقيَّم ويُحكم على القِيم المتعلقة بالأعمال العلمية عن طريق الموضوعية التي يتحلّى بها العمل العلمي وليس شخص العالِم (2).
للموضوعية عدة تحدياتٍ علميةٍ وأخلاقيةٍ أهمها:
1.موضوعية المُنتج والمَنْهج
هُناك طريقتان مختلفتان لفهم مصطلح الموضوعية من هذه الناحية ويُطلق عليهما (موضوعية المُنتج وموضوعية المنهج).
وفقًا للفهم الأول (موضوعية المُنتج) يَكون العلم موضوعيًّا إلى الحد الذي تتجلى فيه منتجاته وهي النظريات والقوانين والنتائج التجريبية العلمية في العالم الخارجي بدقة، وإن منتجات العلوم غير متأثرة بالرغبات البشرية أو الأهداف والقدرات الشخصية أيضًا (1).
ووفقًا للفهم الثاني (موضوعية المنهج) يكون العلم موضوعيًّا بالقدر الذي لا تعتمد فيه العمليات والطرائق التي استُعملت في أثناء البحث على القيم الاجتماعية والأخلاقية الشخصية أو المجتمعية ولا على الانحياز الفردي للعالِم (1)، وفي هذا الصدد؛ يقع على عاتق العالِم الالتزام بعدم الانحياز المسبق إلى أيّ طرف من أطراف النقاش أو النزاع العلمي، وأن يُقيم جميع المعطيات والآراء بمنهجية حيادية غير متحيزة ومبنية على تقييم موضوعي لجميع إيجابيات الحجج المقدمة وسلبياتها.
جديرٌ بالذكر أنّ الحياد العلمي وُصِمَ بأنه انحدار للأخلاق الإنسانية وخصوصًا بعد تحالفه مع التكنولوجيا؛ في حين دافع بعض المُفكرين عن العلم لكونه مصدرًا للخير الذي يحققه الإنسان، وبين هذين الرأيين هناك رأيٌ أكثر شيوعًا يُعدُّ العِلم (محايدًا) بين الخير والشر؛ فما بين اكتشاف القنبلة الذرية واكتشاف البنسلين، يُدعَون أصحاب هذا الرأي إلى الفصل بين صفات العلم والنتائج المترتبة عليه بناءً على هذين المِثالين؛ فليس مُكتشف القنبلة الذريّة شريرًا ولا مُكتشف البنسلين مُحبًّا للخير بالضرورة؛ بل تجمعهما سمة واحدة وهي السعي إلى اكتشف الحقيقة ومعرفة النهاية التي يُمكن أن يُتوصَّل إليها، ولربما أفضل ما يُمكن وصف هذه الحالة القول بأن العِلم؛ بقدْرِ ما أصبح يتحكّم بمصير العالم؛ فإنه لا يملِك مصيره بيده (2).
2. الموضوعية بوصفها مفهومًا مثاليًّا خاليًا من القيم
للحفاظ على الرأي القائل بأنّ الموضوعية هي واحدةٌ من السمات الأساسية للعلم، هناك اعتقاد شائع بأن العلم يجب أن يكون خاليًا من القيم أو المبادئ الشخصية، وأن الادعاءات أو الممارسات العلمية تبقى موضوعيةً ما دامت متحررة من القيم الأخلاقية والسياسية والاجتماعية (1).
قبل مناقشة المفهوم الخالي من القيم، سيكون من المفيد التمييز بين المراحل الأربع التي قد تؤثِّر القيم فيها في العلم وهي:
1.اختيار مسألة البحث العلمي.
2. جمع الأدلة فيما يتعلق بالمسألة.
3. قبول فرضية أو نظرية علمية بوصفها إِجابة مناسبةٍ للمسألة بالاستناد إلى دليل
4. نشر نتائج البحث العلمي وتطبيقها
يوافق معظم فلاسفة العلم على أن دور القيم في العِلم مُثير للجدل فيما يتعلَّق بالمرحلتين الثانية والثالثة فقط؛ لأن من المتعارف عليه عالميًّا أن اختيار مسألة البحث العلمي يتأثّر غالبًا بِمصالح العلماء الفردية والأطراف المُموّلة والمجتمع كُلية. قد يؤدّي هذا التأثير إلى جعل العلم أكثر سطحيّة وإلى إِبطاء تقدُّمه على المدى الطويل، ولكن من ناحية أخرى؛ هذا التأثير له فوائد أيضًا؛ فبناءً عليهِ سَيركز العلماء على تقديم حلول لتلك المشكلات الفكرية التي يعدُّها المجتمع مُلحةً وقد يُحسّنون بالفعل حياة الناس بالعموم، وبالمثل؛ فيما يتعلّقُ بالمرحلة الرابعة وهي نشر النتائج، يتأثر انتشار نتائج البحث العلمي وتطبيقها بوضوح بالقِيم الشخصيّة لمحرري المجلات والمستخدمين النهائيين، ويبدو أنه لا يمكن فعل شيء حيال ذلك ولا يوجد مناظرة أو جدل كبير في هذا الصدد، ولكن الجدل الحقيقي يدور حول ما إذا كان جوهر التفكير المنطقي العلمي (جمع الأدلة وتقييم النظريات العلمية وقبولها) يجب أن يكون خاليًا من القيم (1).
لحلِّ هذه المشكلة، يقترح بعض العلماء الاعتماد اعتمادًا أساسيًّا على (القِيم المعرفية) (Epistemic Values)، وهي نوع من القيم التي تعتمد أساسًا على نجاح المُعتقدات الحقيقية والمُعتقدات المبرهنة؛ أي على المعرفة والفهم الصحيح للأمور وتطبيقها عمليًّا؛ فإن كانت نتائج العملية ناجحةً على أرض الواقع فإنها تُعدُّ حقيقية؛ فعلى سبيل المثال؛ تساعدنا المعتقدات الحقيقية لمعرفة الاتجاهات والطرق للوصول إلى العمل في الوقت المحدّد، أو تساعدنا في معرفة الميكانيكية اللازمة لتصنيع السيارات، ويساعدنا فهم أنماط الطقس السنوية العامة على زرع حقولنا في الوقت المناسب من العام لضمان حصاد جيد، هذا النوع من المعتقدات يُسمّى بالمعتقدات الحقيقية، وعليه تعتمد القيم المعرفية المذكورة أعلاه.
على النقيض من ذلك؛ فإن المعتقدات الخاطئة تعود بنتائج سلبية على الإنسان أساسًا؛ كوجود أسلحة الدمار الشامل الذي يُمكن أن يدفع الدول إلى خوض حروب باهظة الثمن تكون في نهاية المطاف مدمرة وغير مجدية، وهذا ما يُدعى بالمعتقد الخاطئ (3).
أغلب وجهات النظر تتّجه للإشارة إلى أنّ موضوعية وسلطة العلم ليست مهددة من قبل القِيم المعرفية (Epistemic Values) بل من قِبل القيم السياقية أو الظرفية (Contextual Values)، والقيم السياقية هي قِيم أخلاقيةٌ وشخصيةٌ واجتماعيةٌ وسياسيةٌ وثقافيةٌ، مثل المُتعة والعدالة والمساواة والبيئية والتعددية.. إلخ (1).
في الجانب الآخر، يُنادي بعض فلاسفة العلم بالاعتراف بالقيم السياقية والضمنية للعالِم بوصفه لاعبًا رئيسًا في توجيه العِلم والتأثير في نتائجه، إذ تنطوي عديد من القرارات في البحث العلمي على قيم ضمنية تدفع العالِم دفعًا واعيًا أو غير واعٍ لاعتماد اتجاهٍ معينٍ للبحثِ يُؤخذ على أساسه قرارتٍ من شأنها أن تؤثّر في النتيجة النهائية للبحث؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ تُعدُّ تصميم التجربة ومنهجية إجرائها وترتيب البياناتِ واختيار طرائق الإحصاء لمعالجة وتحليل البيانات قرارات يُمكن أن تتأثّر بالقيم السياقية لدى العالِم وبذلك لن تكون مثالية خالية من القيم (1).
تُعدُّ الموضوعية أمرًا قابلًا للنقاش والجدل المتواصل حتى اليوم، وهناك عديد من المقاربات المختلفة لفهم الموضوعية أو لنقدها على الأقل في مجال العلوم الطبيعية، وتتعدد المفهومات المتفاوتة لتعريفها وتحديد دورها وحتى إنكارها التام، ولكن في كل الأحوال، لا ينبغي التخلي عن محاولة الوصول إلى جواب أو فهم موحد ودقيق للموضوعية؛ لأن الموضوعية العلمية أمر أساسي لِفهم طبيعة العلم والدور الذي يؤديه في المجتمع (1).
المصادر:
2- زكريا، فؤاد. (1971). التفكير العلمي. (د. ط). ويندسور: مؤسسة هنداوي سي آي سي. ص189، ص199-201.