العمارة والتشييد > التشييد
الزلازل؛ عندما تغضب الأرض فلسفة التَّصميم الزلزالي
تتراوح شدة الهزة الأرضيَّة تبعًا لموقع الزلزال من المنطقة التي تتعرض لتلك الهزة، فيمكن أن تكون الهزات الأرضيَّة ضعيفة (منخفضة الشدة) ومتكررة، كما يمكن أن تكون (متوسطة الشدة) إلا أنَّ تواترها يكون أقل من سابقتها، وقد تكون (عالية الشدة) وفي هذه الحالة تكون نادرة الحدوث، فمثلًا يحدث سنويًا قرابة 800 من الهزات الأرضيَّة ذات الشدة (من 5 وإلى 5.9) بينما لا يتجاوز عدد الهزات ذات الشدة (من 7 وإلى 7.9) 18 هزة سنويًا.
بناءً على هذه الأرقام والتوقعات الإحصائيَّة يُطرح تساؤل عن جدوى تصميم وتشييد المنشآت التي تستطيع الصمود أمام الهزات الأرضيَّة الضعيفة والمتكررة بصورةٍ كبيرةٍ نسبيًا أو يجب علينا تصميم المنشآت وتشييدها لتقاوم الهزات الأرضيَّة عالية الشدة والتي من الممكن ألا تتكرر إلا كل 500 عام، علمًا أنَّ عمر المبنى الافتراضي لا يتجاوز عادةً 50 إلى 100 عام.
ونظرًا إلى التكلفة العالية التي يتطلبها تصميم مبانٍ مقاومة للهزات الأرضيَّة، نطرح السؤال مرةً أخرى، أيجب علينا أمام هذه التكلفة التخلي عن تصميم المنشآت المقاومة للهزات الأرضيَّة وتشييدها أم يجب تصميم هذه المباني حتى تقاوم أعنف الهزات المتوقعة وأندرها حدوثًا؟
وعند الاجابة عن هذا السؤال سنصل إلى أنَّ النهج الأوَّل (نهج التَّخلي) قد يؤدي إلى حدوث كوارث إنسانيَّة، في حين أنَّ النهج الثاني سيكون مكلفًا للغاية؛ ومنه يجب على فلسفة التَّصميم أن تجد حلًا وسطًا بين هذين النقيضين(1).
المباني المقاومة للزلازل:
حاول المهندسون إيجاد حل يقي من حدوث الكوارث ولا يتطلب استثمارًا ماليًّا ضخمًا، فمن غير المجدي إنشاء مبانٍ -حتى تلك القوية والنادرة منها- لا تتأثر بالزلازل، وتوصلوا إلى أنَّه بدلًا من إنشاء تلك المباني (التي ستكون قوية للغاية؛ ولكنها تكلف كثيرًا أيضًا) يُمكن إنشاء مبانٍ تقاوم آثار الهزات الأرضيَّة مع إمكانية ظهور الأضرار، وصولاً إلى خروجها عن الخدمة؛ لكنها لن تنهار في أثناء الهزات الأرضيَّة الكبيرة.
ومن خلال هذه الفلسفة التَّصميميَّة سنحافظ على أرواح الناس وسنحمي محتويات المباني، وهو يمثل الهدف الرئيس لكودات التصميم التي تضع قواعد تصميم الأبنية المقاومة للزلازل في أنحاء العالم(1).
فلسفة التَّصميم الزلازالي:
يمكن تلخيص فلسفة التصميم الزلزالي بالآتي:
تحت تأثير الهزات البسيطة، يجب ألا تتأثر العناصر الإنشائيَّة الرئيسة للمبنى، والتي تقاوم الأحمال الشاقوليَّة والأفقيَّة، وقد تتضرر بعض عناصر المبنى غير الإنشائيَّة التي لا تقاوم الأحمال؛ ولكنها تبقى قابلة للإصلاح.
تحت تأثير الهزات متوسطة الشدة، قد تتضرر العناصر الإنشائيَّة الرئيسة؛ ولكنها تبقى قابلة للإصلاح، في حين ستتعرض بعض أجزاء المبنى لأضرار يتعين عندها استبدال هذه العناصر بعد الهزة الأرضيَّة.
تحت تأثير الهزات القوية والنادرة الحدوث، تتعرض العناصر الإنشائيَّة الرئيسة لأضرار جسيمة، وهذه الأضرار غالبًا ما تكون غير قابلة للإصلاح، ولكن على المبنى أن يبقى قائمًا دون أن ينهار(1).
الشكل (1) سلوك العناصر الإنشائيَّة تحت تأثير الهزات الأرضيَّة المختلفة
إذًا تحت تأثير الهزات البسيطة ستكون العودة لاستثمار المبنى سريعة (بعد فترة قصيرة من الهزة الأرضيَّة)، وستكون تكلفة الإصلاح بسيطة؛ ولكن بعد الهزات متوسطة الشدة، يُعاد استثمار المبنى بعد إصلاح العناصر الإنشائيَّة الرئيسة المتضررة وصيانتها، أمَّا بعد الهزات عالية الشدة ونادرة الحدوث فإنَّ المبنى قد يصل إلى حالة يصبح من الصعب بعدها صيانته وإعادته إلى الخدمة مرةً أخرى، غير أنَّه لا ينهار، ويسمح بخروج الناس منه بأمان، ويُحافظ على الممتلكات داخله(1).
مع ذلك يجب عند تصميم المنشآت لمقاومة الزلازل الأخذ بعين الاعتبار أهميَّة المنشآت التي تُصمم مثل المستشفيات ومحطات الإطفاء، والتي يكون لها أهميَّة خاصة قبل حدوث الهزة الأرضيَّة وفي أثناء حدوثها، لذلك يجب أن تكون جاهزيتها عالية، فعند تعرض هذا النوع من المنشآت للضرر في أثناء الهزة الأرضيَّة يجب أن يكون هذا الضرر خفيفًا؛ ومنه يجب أن تُصمم لتقاوم مستوى أعلى من الهزات الأرضيَّة مقارنةً بالمنشآت الأخرى، فمثلاً يمكن أن يتسبب انهيار أحد السدود تحت تأثير الهزات الأرضيَّة بفيضانات كبيرة، هذه الفيضانات هي نفسها كوارث إضافية أخرى إلى جانب الكارثة الرئيسة (الهزة الأرضيَّة)، لذلك فإنَّ السدود مثلها مثل المنشآت النوويَّة يجب أن تُصمم لتتحمل مستوى عالي جدًّا من الهزات الأرضيَّة (1).
شر لا بدَّ منه:
تعرض المباني للأضرار في أثناء الحركة الأرضيَّة هو أمر متوقع جدًّا عند المصممين، لذلك تُصمم المباني ليكون الضرر ضمن المستوى المقبول والتكلفة المعقولة.
على عكس الفكرة الشائعة التي مفادها أنَّ أي ضرر في المنشأة يعني أن المنشأة غير آمنة وخارج الخدمة؛ إذ يتوقع المهندسون عند تصميم الأبنية لتكون مقاومة للهزات الأرضيَّة حدوثَ بعض الضرر الذي لا بدَّ منه.
وهناك العديد من الأضرار التي تتعرض لها المباني نتيجة للهزات الأرضيَّة (الشروخ والصدوع بصورةٍ رئيسة وخصوصًا في المباني الخرسانيَّة)، تكون بعض هذه الشروخ مقبولة في حجمها ومكان حدوثها في المبنى، بينما يكون بعضها الآخر غير مقبول، فعلى سبيل المثال في المنشآت الاطارية الخرسانيَّة ذات جدران البلوك تكون الشروخ التي تظهر بين الأعمدة الشاقوليَّة وجدران البلوك مقبولة، بينما الشروخ القطرية التي تمرُّ في الأعمدة مرفوضة كليًّا.
لذلك فإنَّ عملية تصميم المباني لمقاومة الزلازل تسعى لضمان أن تكون الأضرار التي تلحق بالمباني من النوع المقبول، وأن تكون هذه الأضرار في المكان المناسب، وضمن الحدود المقبولة(1).
إنَّ فلسفة التَّصميم هذه تشبه إلى حدٍّ كبير استخدام القواطع الكهربائيَّة (الصمام الكهربائي أو الفاصمة المنصهرة) في المنازل، فمن أجل حماية الأجهزة الكهربائيَّة المنزليَّة عليك أن تضحي ببعض أجزاء الدارة والتي هي القواطع الكهربائيَّة الممكن استبدالها بسهولةٍ، ومثل ذلك إنقاذ المبنى من الانهيار؛ إذ يسمح المهندسون لأجزاء محددةٍ في المبنى أن تتعرض لنوع ومستوى مقبول من الضرر(1).
الشكل (2) تشققات قطرية قي عمود– ضرر غير مقبول
السر في المطاوعة (الليونة)
كيف يمكننا التأكد من أنَّ الضرر سيكون مقبولًا ؟
المعضلة التي تواجه المهندسين هي تلك الفجوة بين قدرة المبنى التَّصميميَّة (القدرة النظريَّة للمبنى على الصمود أمام القوى الزلزاليَّة) والقوى الفعلية المحتملة؛ إذ يُتعامل مع هذه الفجوة من خلال الاعتماد على خاصية المطاوعة (الليونة) (2).
وهنا يجب تحديد الشكل المقبول للضرر والسلوك المرغوب في المبنى في أثناء الزلزال.
وعلينا في البداية أن نفهم كيف تتصرف المواد المختلفة، ومثال بسيط على ذلك فكر في الطباشير التي يُكتَب بها على السبورة، والدبابيس الفولاذية ذات الرؤوس الصلبة التي تستخدم لتجميع الأوراق معًا، بالطبع فإنَّ قطع الطبشور تُكسر بسهولةٍ أمَّا الدبابيس الفولاذية فإنَّها تنحني دون أن تنكسر(1).
يطلق المهندسون على الخاصية التي تسمح للدبوس بالانحناء اسم الليونة (المطاوعة)، أمَّا الطباشير فيعدونها مادة هشةً (قصيفة).
وعند تصميم المباني المقاومة للهزات الأرضيَّة فإنَّ المهندسين في معظم الأحيان يحرصون أن تكون العناصر الرئيسة -على الأقل- في المبنى مطاوعة (لينة)؛ إذ يكون لهذه العناصر القدرة على الانحناء (بصورةٍ مقبولةٍ) لتتحمل الهزات الأرضيَّة دون أن تنهار، وهذه الخاصية تعدُّ من أهم العوامل التي تؤثر في أداء المبنى في أثناء الهزة الأرضيَّة؛ ولذلك يتركز التَّصميم الزلزالي حول التحديد المسبق للنقاط اللينة التي سيحدث فيها الضرر، وجعلها مطاوعةً قدر الإمكان(1).
الشكل(3) سلوك المباني في أثناء الهزات الأرضيَّة– الأبنية المطاوعة والأبنية القصيفة
يعتمد المهندسون في التَّصميم على المواد التي يكون لها القدرة على التشوه دون أن تنهار بسرعةٍ، هذا التشوه يمتص الطَّاقة الزلزاليَّة ويؤخر الانهيار، ولتوضيح هذه الفكرة يُمكننا أن نجرب محاولة كسر ملعقتين واحدة من البلاستيك والأخرى من المعدن، الملعقة البلاستيكيَّة ستتشوه فجأةً ومن أوَّل محاولة كسرٍ لها ليستقر شكلها على أوَّل تشوهٍ حدث لها، وإنَّ أي حركة أخرى للملعقة سيؤدي لكسرها (انهيارها)، بينما يمكن للملعقة المعدنيَّة أن تنثني عدة مرات دون أن تنكسر (تنهار)(2).
الشكل (4) المطاوعة
ويمكننا تفسير ذلك بأنَّ التشوه في المعدن (الملعقة مثلًا) يمتص الطَّاقة ويؤخر الانهيار، ففي كل مرة ينثني فيها المعدن ولا ينهار فإنَّه يواصل بذلك مقاومة القوى المؤثرة فيه على الرغم من تناقص فعاليته، ويمكننا تشبيه تأثير الهزة الأرضيَّة على المبنى إلى حدٍّ ما بعملية ثني الملعقة ذهابًا وإيابًا؛ إذ -وبصورةٍ مماثلةٍ ومقبولةٍ- يتحرك المبنى ذهابًا وإيابًا بتواتر قد يصل لأكثر من مرة في الثانية الواحدة(2).
من أجل ذلك تُصمم المباني بطريقةٍ تجعلها حتى عندما تتعرض لهزات أرضيَّة قوية ونادرة الحدوث؛ أي لقوى أكبر من القوى التَّصميميَّة تتشوه، وربما تكون غير قابلة للإصلاح وللاستخدام مرة أخرى إلا أنَّها تصمد وتبقى قائمة دون أن تنهار(2).
الخلاصة:
إذًا هذه هي فلسفة تصميم المباني لمقاومة الهزات الأرضيَّة؛ يُصمم المبنى ليكون مطاوعًا بصورةٍ مقبولةٍ في مواجهة الهزات الأرضيَّة حتى يبقى قائمًا قدر الإمكان دون أن ينهار، ومنه نُحافظ على الممتلكات والأرواح، وقد يبقى صالحًا للاستخدام لاحقًا مع بعض الإصلاحات.
المصادر: