الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الأخلاق وعلم الجمال
التعاطف مع مرضى كورونا؛ تحدٍّ أخلاقي يواجهه العاملين بالمجال الصحي
إننا نمرُ في كل حقبة زمنية بتحدٍّ أخلاقي يجعلنا نطرح أسئلة وجودية وأخلاقية أو نعيد نطرح أسئلة سابقة؛ فنحن أمامها عمليًّا ولدينا حاجة ملحّة إلى أكثر الإجابات أخلاقيًّا خصوصًا أننا بمواجهة فقدان أشخاص! إذ إن البشرية الآن في صراع مع داء فيروس كورونا المستجد Covid-19، الذي يهدد مستقبلًا بشريًّا كاملًا؛ ينشغل العلماء بالبحث عن حلول وتجربة عقارات طبية جديدة، يصطدم العاملون بالمجال الصحي بعوائق وتحديات طبية وأخلاقية؛ مثل أن تحتّم عليهم اختيار أولوية إنقاذ شخص على آخر، وهنا بدأت تُثار التساؤلات؛ هل ترك نفس تحتضر وإنقاذ أخرى بقرارنا أمرٌ طبيعي ومقبول؟ ألا يُعدُّ هذا خطأً أخلاقياً؟ أم هل هناك معايير يعتمد عليها مقدمو الرعاية الصحية؟
هذا تحديداً ما تواجهه إيطاليا، فبسبب وجود أعداد كبيرة من المصابين، أصدرت الكلية الإيطالية للإنعاش والعناية المُركزة إرشادات توجيهية تنصح الأطباء من خلالها بمنح أولوية العلاج لأولئك الذين لديهم، أولاً؛ احتمالية أكبر للبقاء، وثانياً، سنوات حياة محتملة أكثر، ونتيجة لذلك، قد لا يكون علاج المرضى من المسنين وأصحاب الحالات الحرجة، بالطريقة ذاتها التي تكون للأصحاء والأصغر سناً، وهذا المبدأ هو شكل من أشكال النفعية لإنقاذ أكبر عدد من الحيوات، وجميع الأشخاص ذات قيمة متساوية، ولكن تُعطى أولوية العلاج للأشخاص الذين من المرجح أن يستفيدوا من العلاج ويتعافون بسرعة (4).
التعاطف Empathy
تشكّل العواطف مجموعة متنوعة من الحالات النفسية، وليس من السهل تمييزها من الظواهر المتعلقة بالمزاج والغرائز والمواقف والتفضيلات والرغبات والتصرفات، ومن الأمثلة المعروفة عن العواطف: الخوف والغضب والكبرياء والكراهية والحرج والحزن والشفقة.. إلخ. ولا يوجد تعريف فلسفي مُجمعٌ عليه للعاطفة، ولكن هناك بعض السمات المرتبطة بالعواطف متفق عليها من قِبل معظمهم؛ وفي مقدمتها الاعتقاد المرتبط بعاطفة معينة، فمثلًا عادة ما ينطوي الخوف على الاعتقاد بأن شخصًا يهمّنا أمره في خطر، لكن من الواضح أننا نحتاج ما هو أكثر من المعتقدات لتتحرك عواطفنا؛ فمِنَ الممكن مثلاً الاعتقاد بوجود الخطر دون الشعور بالخوف، لذلك السمة الثانية للعواطف هي الرغبة المرتبطة بوثوق بذلك الاعتقاد، فالشعور بالخوف لا ينطوي فقط على اعتقادك بأن شخصًا ما في خطر، ولكنه يرتبط برغبتك في أن تجنبه إياه أيضًا. لكن ومع ذلك قد يذهب العديد من الفلاسفة إلى أن الاعتقاد والرغبة وحدهما لا يُشكّلان العواطف، بل يجب أن يشملا المشاعر والأحاسيس أيضاً (1).
ويرتبط كل من الشفقة والتعاطف بالاعتقاد بأن شخص ما يعاني أو يمر -ظلمًا- بحالة سيئة للغاية، وهذه العواطف تنطوي على الرغبة -التي قد تكون متفاوتة الشدة- بتخفيف المعاناة عن المتألم أيضًا، وهنا يكمن الاختلاف بين الرغبة الحقيقة والتصرف بتعاطف أملاً بمثله. وغالبًا ما يحفز التعاطف والشفقة الشخص على محاولات لمساعدة الأخر والتخفيف عنه، ويبدو أنها تتزامن مع مشاعر مميزة مثل القلق (1).
التعاطف والأحكام الأخلاقية Empathy and Moral Judgments
لكن هل هناك علاقة تجمع بين شعور التعاطف والأخلاق؟ هل للتعاطف دور في قدرتنا على التمييز بين ما يُعدُّ معاييرَ أخلاقية وبين ما يُعدُّ تقاليدَ مجتمعية؟ عمومًا تُعدُّ المعايير الأخلاقية أكثر أهمية من التقاليد والأعراف؛ لكونها مستقلة عن السلطة الاجتماعية أو الممارسات الاجتماعية المحددة، ولأن نطاقها أوسع بكثير؛ فالأخلاق مثلاً تصلح في بلدان أخرى، لذا من المفهوم عموماً أن انتهاك المعايير الأخلاقية يعد جريمة أكثر خطورة من انتهاك المعايير المجتمعية المختلفة الأخرى (2).
يرى الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم (David Hume 1711- 1776)، أن الأحكام الأخلاقية تستند إلى مشاعر مميزة من القبول أو اللاقبول الأخلاقي التي تُحدَّد من خلال قدرتنا على التعاطف -أو الشفقة حسب تعبير هيوم- مع ألم ومتعة الآخرين. وأصرَّ على أنه حتى يُعدُّ القبول أخلاقيًّا بحالةٍ ما ومن ثم التعاطف معها؛ يجب أن يُوضع ويُنظَّم التعاطف (الشفقة) على أنه "وجهات نظر ثابتة وعامة". ونود أن نُشير إلى قدرة هيوم على التمييز بين الأحكام المتعلقة بما هو سيئ وما هو خطأ أخلاقي. فنحن نتعاطف ونشعر بالشفقة لما تسببه الكوارث الطبيعية من ألم للآخرين، لكن هذا التعاطف لا يترافق مع أي أحكام بعدم جواز حدوث الكوارث الطبيعية أخلاقياً (2).
ويُنظر إلى أخلاقيات الرعاية Care Ethics على أنها نظرية علائقية للأخلاقيات. الفكرة الأساسية في هذه النظرية تقول بأن تصرفاتنا بطريقة معينة تنتج عن علاقتنا مع محيطنا. تُعرفنا دكتورة الفلسفة الأسترالية ستيفاني كولينز (Stephanie Collins) في كتابها جوهر أخلاقيات الرعاية (The Core of Care Ethics)؛ على ماهية هذه النظرية. وتحدّد كولينز أربعة معايير رئيسة لأخلاقيات الرعاية، وتبدأ بالمعيار الأول بوجوب أن تتوافق النظرية الأخلاقية إيجابياً مع الاعتبارات التي تنطوي على التعاطف، بمعنى أنه علينا تحديد المبادئ الأخلاقية التي سنتصرف وفقاً لها، وبالتالي نتعاطف معها.
ثانياً؛ قيمة الأفراد في العلاقات؛ ترى كولينز أن العلاقات الإنسانية يجب أن تُعامل كنماذج أخلاقية، أن تُقَدَر وتُصان وأن تؤخذ الواجبات الكبيرة التي تنتج عنها بالحسبان.
ثالثاً؛ تتطلب أخلاقيات الرعاية أحيانًا أن يكون لدى الأشخاص اهتمام برعاية الآخرين والاستجابة الإيجابية لشؤونهم. وأن نكون مستعدين لتلبية حاجة ندركها في بعضنا البعض، إذ يظهر الاهتمام من خلال المواقف التي لها قيمة أخلاقية وأن يكون لدينا النية لتلبية تلك الحاجات.
أما المعيار الرابع والأخير في أخلاقيات الرعاية فيدعو الأشخاص للقيام بأفعال بقصد تلبية شؤون الآخر عندما يكون من المرجح أن الفعل سيحقق الفائدة للآخر ومدى كون استفادتهم هي حاجة (3).
وأخيرًا عندما نفكر في الأخلاق في الرعاية الصحية، فإن المبدأ الأساسي هو تجنّب الأذى والمعاناة. وبما أن تجنب هذا الأذى أمر غير ممكن الآن، فكل ما يمكننا فعله هو محاولة تخفيفه، وأن نفهم ونقبل -على الرغم من صعوبة ذلك- أنه لا يمكن إنقاذ الجميع، ويُعيدنا هذه التحدي الأخلاقي إلى معضلة العربة الأخلاقية هنا.
وسيكون على العاملين بالمجال الصحي تحمل وطأة هذه المعضلة الأخلاقية، هؤلاء هم الأشخاص الذين سيتعين عليهم، يوماً بعد يوم، اتخاذ القرارات التي قد تجعلهم يشعرون أنهم ارتكبوا شيئًا خاطئًا، فهُم بين خيارين كلاهما سيئ (4).
المصادر: