الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة
حصاد الضباب؛ الحياة في مواجهة الجفاف
قد تُحذِّرنا نشرات الطقس من القيادة أو ممارسة نشاط معيَّن في صباح يومٍ ضبابيٍّ بارد، لكن الضباب لا يرتبط بالتحذير فقط وبإمكانك أن تسأل تلك الأماكن التي أتعبها الجفاف، فوجدت في الضباب رفيقاً يمدُّها بالحياة. فهل تعلم كيف يُحصد الضباب؟
ما الضباب؟
يختلف الضباب عن غيره من الظواهر المناخية بأنه ظاهرةٌ غيرُ مستمرة، ووثيقة الارتباط بجغرافيا المكان؛ لهذا عادة ما تركِّز الدراساتُ البحثيةُ على المناطق التي يتكرَّر فيها حدوث هذه الظاهرة. فإذا ما أردنا أن نعرِّف الضباب (Fog)؛ فإننا سنجد عديداً من المصطلحات التي تطوَّرت بهذا الشأن تبعاً للاختصاص المعني. وعلى سبيل المثال: يعتمد العاملون في مجال المناخ والأرصاد الجوية التعريفَ القائلَ بأن الضباب يحدث عندما يكون مجال الرؤية الأفقية أقل من 1 كم. ولما كانت الرؤية جيدة في مجال أقل من 1 كم في أثناء الهطول المطري الغزير؛ فقد وُسِّع هذا التعريف بحيث يُضاف إليه أنَّ الضباب عبارة عن قطرات صغيرة سحابية (المقصود بسحابية أنها عالية) معلقة في الهواء، تخفِّض من مجال الرؤية المُتاح وذات حجم أقل من 200 ميكرون. ومن حيث المبدأ يمكن القول أنَّ الضباب عبارة عن سحاب منخفض يُلامس سطح الأرض ويُحيط بالمراقب (1).
ويرجع التأثير الكبير للضباب في مدى الرؤية إلى أن النسبة الكبيرة منه هي في شكل غاز (بخار الماء) وليست بشكل سائل حتى في ظروف الضباب الكثيف، بحيث أنَّ كمية الماء الناتجة عن الضباب صغيرة جداً ولا تتجاوز 0.5 غرام لكلِّ متر مكعب. والصورة (1) تُبيِّن تركيزَ الماء الصغير جداً في الضباب تبعاً لدرجة الحرارة السائدة (1).
الصورة (1). محتوى الماء في حالة الضباب الكثيف
هل للضباب أنواع؟
هناك سبعة أنواع للضباب، سُمِّيت أربعة منها بناءً على مكان تشكُّل الضباب والطريقة التي يتشكَّل بها (ضباب الإشعاع، ضباب البحر، ضباب البخار، ضباب التأفق "أو ذو الانتقال الأفقي"). في حين أن الأنواع الثلاثة الأخرى قد سُمِّيَت بناءً على جغرافيا المكان بغضِّ النظر أين تشكَّل الضباب وكيف (ضباب الساحل، ضباب الوادي، ضباب الجبل) (1).
- الضباب الإشعاعي (Radiation fog): نجد هذا النوع بكثرة في المناطق التي يتراكم فيها الهواء البارد ليلاً، أو فترات طويلة في فصل الشتاء.
- ضباب البحر (Sea fog) وضباب البخار (Steam fog): يُلاحظ هذان النوعان في المحيطات المفتوحة، مع فرقٍ مميزٍ بينهما هو أنَّ ضباب البحر يتشكَّل نتيجة تبريد الهواء الرطب فوق سطح المحيط البارد، في حين أنَّ ضباب البخار يتشكَّل نتيجة التقاء الهواء غير المشبع ببخار الماء مع سطح الماء الدافئ؛ إذ يتبخَّر الماءُ بمعدلٍ يتجاوز درجة إشباع الهواء. وبذلك فإنَّ بخار الماء الفائض عن درجة إشباع الهواء يتحوَّل إلى قطرات صغيرة تُشكِّل ضباب البخار.
- ضباب التأفق (ذو الحركة الأفقية) (Advection fog): يتطلب تشكُّل هذا الضباب رياحاً ثابتةَ الاتجاه تدفع طبقةَ الضباب المتشكلة فوق موقع معيَّن. وعلى عكس الضباب الإشعاعي الذي يتشكل في ظروف الرياح الضعيفة الشدة أو في الكتل الهوائية الساكنة؛ فإن لضباب التأفق خصائصَ فيزيائية مختلفة؛ إذ يتراوح حجم قطرات الماء لضباب التأفق في المجال (1-30) ميكرون، في حين يتجاوز 50 ميكرون في حالة الضباب الإشعاعي الكثيف.
- ضباب الساحل (Coastal fog): هو عبارة عن ضباب ذي حركة أفقية، يتشكَّل في السواحل عندما يكون سطح اليابسة أدفَأ من سطح الماء الملاقي له، مثل الضباب الذي يتشكل عادة فوق ساحل صحراء أتاكاما وساحل الصحراء النامبيية وغيرها من السواحل؛ إذ تنقلُ الرياحُ الأفقيةُ ضبابَ البحر الكثيف إلى المناطق القريبة من الشاطئ.
- ضباب الوادي (Valley fog) وضباب الجبل (Mountain fog): إن ضباب الوادي هو ضباب إشعاعي يتشكَّل في الوديان بين الجبال، أما ضباب الجبل فهو سحاب يتحرَّك على ارتفاع معين فوق الأرض ليلامس سفوح الجبال، لا سيما جبال الغابات في المناطق الاستوائية.
الصورة (2). أنواع الضباب وفق (Bruijnzeel et al. 2005)
حصاد الضباب في الطبيعة
يُمثِّل الضبابُ مورداً مائياً طبيعياً للعديد من الكائنات الحية، لا سيما تلك التي تعيش على شواطئ الصحاري القاحلة حيث يمثِّل الضباب أملَ هذه الكائنات الوحيد في الحياة. ولنا في خنفساء الصحراء الناميبية خيرَ مثال على ذلك. تعيش الخنافس الداكنة Darkling beetles (من عائلة Tenebrionidae) في الصحراء الناميبية –واحدة من أكثر مناطق العالم جفافاً- على ساحل أفريقيا الجنوبي الغربي. تعتمد بعض أنواع هذه الخنافس على سطوح أجسامها في الحصول على الماء اللازم لها من الندى والضباب (2).
ألهمت هذه الخنفساء عديداً من الباحثين للبحث في موضوع آلية الحصول على المياه من الضباب في الهواء. وتساعد الأخاديد والنتوءات على السطح الصلب لأجنحة الخنفساء الأمامية في تكثيف المياه وتوجيهها إلى فم الحشرة؛ إذ إن بِنية السطح المؤلفة من تقعرات (جاذبة للماء) وتحدبات (نافرة للماء) يزيد من فعالية الحصول على مياه الضباب. ويعتقد أيضاً أن الوضع الذي تتخذه الخنفساء يعادل أهمية تركيبة سطحها؛ إذ تقف في مواجهة الرياح الحاملة للضباب، رافعةً مؤخرة جسمها إلى الأعلى في الهواء (الصورة 3) (فيما يُعرف بـ fog-basking behavior).
الصورة (3). تكاثف قطرات الماء من الضباب على ظهر الخنفساء والوضع الذي تتخذه للحصول على الماء
ما دوافع الحصول على المياه من الضباب؟
في أثناء قراءة هذا المقال؛ ربما يتولد سؤال جوهري في ذهن القارئ: ما جدوى الحصول على مياه الضباب على الرغم من قلتها، والجواب يكمن في أنَّ عديداً من المناطق الجافة في العالم يندر فيها وجود الماء العذب أو ربما ينعدم وجوده فترة طويلة من السنة، او تكون كلفة الحصول عليه مرتفعة جداً في حالة المياه الجوفية، وفي هذه الحالة تكون مشاريع حصاد مياه الضباب هي الحل الأمثل لا سيما في المناطق الجافة وشبه الجافة، والمدارية وشبه المدارية (3).
ما آلية حصاد الضباب؟
إن آلية جمع الماء من الضباب بسيطة، وتعتمد على نصب شبكة لوحية -نسيج من الخيوط الدقيقة- في مكان ملائم بحيث تكون معرَّضة للهواء المحمَّل بالضباب. تدفع الرياحُ الضبابَ إلى نسيج الشبكة، بحيث تتجمع عليها القطرات المائية الصغيرة، وهي التي تندمج بعضها مع بعض لتشكل قطرات أكبر، ثم تجري بفعل الثقالة للأسفل إلى مزاريب تنتهي في حوض تخزين (3).
وتختلف حاصدات الضباب المستخدمة فيما بينها من حيث الشكل والحجم وحتى نوع نسيج الشبكة المستخدم. فمثلاً يستخدم حاصدُ الضباب المعياري (Standard Fog Collector SFC)، في الدراسات الأولية لتقدير كمية المياه المستخلصة من الضباب في مواقع معينة. تبلغ مساحة الحاصد المعياري (1) متر مربع، وترتفع شبكته بمقدار 2 متر عن الأرض، وتُنصب بشكل عمودي على اتجاه هبوب الرياح الحاملة للضباب. وتستخدم هذه الحاصدات لقياس تدفقات الضباب في أكثر من 40 بلداً في أنحاء العالم (3).
أما حاصدات الضباب الكبيرة (Large Fog Collectors LFC)، الصورة (4)، فهي المستخدمة في هذا المجال أساساً وعلى نطاق واسع، وتعمل على نحو مشابه للحاصدات المعيارية، وتختلف عنها بأن سطح التجميع أكبر. وتقدّر أبعاد سطح الحاصد الكبير غالباً بـ 4 متر طولاً و10 متر عرضاً، بحيث ترتفع الحافة السفلى للشبكة الملحقة بـ المزراب، بمقدار 2 متر عن سطح الأرض لزيادة كفاءة العملية (3).
الصورة (4). صورة لحاصد ضباب ذي مساحة 18 متراً مربعاً في إحدى الجبال بإسبانيا
يُثبت الحاصد المعياري (SFC) ضمن إطار صلد، في حين يعتمد تثبيتُ شبكة الحاصد الكبير (LFC) على كابلات مُثبتة إلى عمودين شاقوليين مثبتين في الأرض بإحكام.
يُحدَّد معدل تدفق الماء في الحاصد من خلال: محتوى الماء بشكله السائل (fog liquid water content LWC)، والتوزيع الحجمي للقطرات المائية، والشكل الهندسي لشبكة التجميع إضافة إلى سرعة الرياح في الموقع (3).
أما المادة التي تصنع منها شبكة الحصد؛ فهي من البروبيلين الآمن غذائياً food-safe polyethylene، بعرض رفيع مرن وفعَّال في عملية التجميع. يتألف نسيج الشبكة من مثلثات ممتدة طولياً بحيث تسمح بجريان سريع للماء. كذلك تتضمن الشبكة طبقتين متعاكستين في اتجاه نمط النسيج، لتسهيل جريان الماء، ويُوضِّح الشكل (5) أشكال النسج المستخدمة في شبكات حصاد الضباب (3).
الصورة (5). أنواع النسج المستخدمة في شبكات حصد الضباب
مشاريع حصاد الضباب في العالم
تنتشر مشاريع حصاد الضباب في مناطق مختلفة من العالم، في أمريكا الجنوبية والوسطى، وفي بعض مناطق أوروبا وآسيا. وتبين الصورة (6) خريطة توضِّح المناطق في العالم التي نجحت في استخراج المياه من الضباب، وهي التي تتضمن مناطق ذات مناخ جاف عموماً أو جاف فصلياً، وتتوافر فيها الشروط الملائمة لتشكل الضباب بكثافة ملائمة (3).
الصورة (6). توزع مشاريع حصاد المياه الناجحة في العالم
قدَّم هذا المقال لمحةً بسيطةً عن الضباب وأهمية حصاده؛ إذ يتوفَّر بشروط ملائمة في المناطق التي لا تجد سبيلاً للحصول على المياه النقية، ولا تزال هناك الحاجة إلى مزيد من البحث فيه لا سيما فيما يتعلق بتصميم الحاصد وكفاءته والجدوى الاقتصادية لمثل هذه المشاريع.
المصادر:
1.Fog Research Nebelforschung | Request PDF [Internet]. [cited 2020 Apr 15]. Available from: هنا
2.Water vapor harvesting : Darkling Beetles - AskNature [Internet]. [cited 2020 Apr 15]. Available from: هنا
3.Fog as a Fresh-Water Resource: Overview and Perspectives | Semantic Scholar [Internet]. [cited 2020 Apr 15]. Available from: هنا