التعليم واللغات > اللغويات التطبيقية
عوامل مؤثرة في تعلُّم لغة أجنبية
يُعدُّ تعلُّم لغة أجنبية مهارةً كغيرها من المهارات التي تتطلّب استعدادًا فرديًّا وتقنيّاتٍ وطرائق مختلفة تمكّن المتعلم من إتقان اللغة الجديدة مع الوقت، ولكن نظرًا إلى الاختلافات بين البشر؛ فإن الاستناد إلى طريقة تعلّم شاملة متكاملة تصلح للجميع أمرٌ صعبٌ جدًّا إذا لم يكن مستحيلًا، فهناك عوامل كثيرة تؤثر في عملية اكتساب لغة جديدة، ونورد لكم هنا أهمّها.
العامل البيولوجي:
سنبدأ مع العامل البيولوجي الذي لا يمكن إغفال دوره في عمليات التعلُّم عمومًا وتعلُّم اللغات خصوصًا؛ إذ هناك العديد من الأبحاث والدراسات عن نظريات تعلم لغة أجنبية. وفي ورقة بحثية تتناول موضوع السن المُثلى لتعلم لغة أجنبية يعتمد كل من الباحث جيمس ج. آشر James J. Asher من جامعة ولاية سان خوسيه وراميرو غارسيا Ramiro Garcia من معهد بروسبيكت العالي على ثلاث نظريات (1):
1- نظرية لدونة الدماغ (The Brain Plasticity Theory): يمتلك دماغ الطفل الصغير استجابة خلوية تمكنه من اكتساب اللغة، وقد تكون هذه الاستجابة وظيفةً من وظائف لدونة الدماغ أو مرونته تتحكم بها ساعة بيولوجية، ومع التقدم في العمر تُغيِّر الساعة البيولوجية تلك اللدونة الخلوية وتقلِّص من قدرتها على تعلم اللغات.
2- نظرية الاستعداد البيولوجي (The Biological Predisposition Theory): وتقول إن الإنسان يمتلك منذ الولادة قدرة فريدة على تعلم اللغة، ولكن هذه النظرية لا تقدم تفسيرًا لتَراجع هذه المقدرة مع التقدم في السن.
- نظرية التأثر أو الانطباع بفعل المحاكاة (The Imprinting Theory): وهي تفترض وجود مرحلة حرجة (Critical Period) في طور نموِّ الطفل المبكرِ يحدث في أثنائها الانطباع من التأثيرات المحيطية، ما يؤدي إلى اكتساب اللغة.
والقاسم المشترك بين هذه النظريات هو أنها تقتضي ضمنًا أنه في المراحل الأولى من نمو الطفل هناك ما يزيد من احتمالية اكتساب اللغة كالناطقين الأصليين كلما كان عمر الطفل أصغر، ولكن هذه النظريات لا تقدم دليلًا مباشرًا على أفضلية الأطفال في اكتساب اللغة، لأن هذه الفكرة ناتجة عن ملاحظة أن الأطفال الذين يعيشون في بلد غير موطنهم الأم يتعلمون اللغة أسرع من البالغين (1).
وقد اقتبس الباحثان آشر وغارسيا دراسةً أُجريت على عدة أشخاص (أعمارهم 7 و11 و14 سنة) للتحقق من فرضية أن الأطفال يتعلمون اللغة بمزامنة الكلام وربطه باللعب أو الحركة الجسدية (على سبيل المثال عندما تنادي الأم طفلها وتطلب منه الركض في اتجاه معين)، وأن البالغين -في المقابل- يتعلمون اللغة دون ربطها بالضرورة مع أية حركة جسدية (كإلقاء التحية والأحاديث القصيرة عن الطقس). وأظهرت النتائج أن البالغين والأطفال الأكبر سنًّا تفوقوا على الأطفال الأقل سنًّا في تعلُّم اللغة الروسية في حالات رُبط فيها الكلام بالحركة الجسدية، وربما تكون أفضلية الأطفال مقتصرة على اكتساب اللفظ كالمتحدثين الأصليين، في حين تكون مهارة الفهم لدى البالغين أفضل (1).
وأما آشر وغارسيا فقد أجريا تجربتهما على أطفال مهاجرين من أصل كوبي (تتراوح أعمارهم بين 7 سنوات و19 سنة) يعيشون في سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا، وقد تبيَّن أن 68% من الأطفال بين سنة وستِّ سنوات تمكنوا من اكتساب لفظ اللغة الإنكليزية تقريبًا كالناطقين الأصليين بها، وانخفضت النسبة مع ازدياد العمر (1). وكذلك فإن مدة الإقامة في بلد أجنبي تؤثر في تلك القدرة، ففي التجربة ذاتها تبيَّن أن نصف هؤلاء الأطفال الكوبيين الذين عاشوا في الولايات المتحدة مدة تتراوح بين خمس وثماني سنوات تمكنوا من اكتساب لفظ المتحدثين الأصليين بصورة أفضل ممن عاشوا في الولايات المتحدة أقل من أربع سنوات (1).
وهذا يشير إلى أن التعرُّضَ للغة ثانية في مراحل الطفولة المبكرة وطولَ مدة هذا التعرض هما عاملان أساسيان على الأقل في إتقان لفظ اللغة كالمتحدثين الأصليين بها، وهو ما يدعم بدوره نظرية الاستعداد البيولوجي.
إستراتيجيات التعلم:
تُعرَّف إستراتيجيات التعلم بأنها أفعال أو سلوكات أو خطوات أو تقنيات محددة يستخدمها الطلاب لتحسين سير تعلُّمهم، كإيجادِ شريك للتدرب على المحادثة أو تشجيعِ الذات بغية التعامل مع مهمة لغوية صعبة، وتختلف هذه الإستراتيجيات تبعًا للمتعلم والمهمة اللغوية المطلوب إنجازها (2).
وقد وضعت الباحثة ريبيكا أُكسفورد Rebecca Oxford عام 1990 فهرسًا بإستراتيجيات تعلم اللغات SILL يحوي ست فئات مستندةً إلى دراساتٍ عديدة (2):
- الإستراتيجيات الإدراكية (Cognitive Strategies): وتمكِّن المتعلم من التلاعب بالمادة اللغوية مباشرة، وذلك بالتفكير المنطقي والتحليل وتسجيل الملاحظات والتلخيص والموالفة وإعادة تنظيم المعلومات للتوصل إلى بِنى معرفية أمتن، والتدرب في سياقات طبيعية ورسمية على الأصوات والبنى اللغوية.
- الإستراتيجيات الما فوق الإدراكية (Metacognitive Strategies): وتنطوي على معرفة المتعلم لتفضيلاته واحتياجاته الخاصة المتعلقة بأسلوب التعلم الذي يتبعه، والتخطيط لأداء المهمات المتعلقة باللغة الأجنبية، وجمع المواد وتنظيمها، وتنظيم الدراسة وجدولتها، ومراقبة الأخطاء، وتقييم النجاح في أداء المهمات اللغوية، وتقييم نجاح أي نوع متَّبع من إستراتيجيات التعلم.
- الإستراتيجيات المرتبطة بالذاكرة (Memory-related Strategies): تعتمد على ربط عناصر أو مفهومات من اللغة الثانية بعناصر ومفهومات أخرى دون الحاجة إلى فهم عميق لها، مما يساعد على تعلُّم المعلومات اللغوية واسترجاعها إما وفق سلاسل من الأحرف، وإما بالاعتماد على الأصوات والإيقاع، وإما عن طريق الصور، وإما بمزيج من الصور والأصوات، وإما بالحركة الجسدية، وغيرها من الوسائل.
- إستراتيجيات التعويض (Compensatory Strategies): وتعتمد على تخمين المعنى من السياق سواء في الاستماع أو القراءة واستخدام المترادفات والالتفاف على أية كلمة ناقصة من أجل التمكن من الاستمرار بالكلام والكتابة، وهذه المترادفات -أو الإيماءات وكلمات الوقف المستخدمة في إثناء الكلام- تؤدي دور التعويض عن الكلمة أو المعلومة الناقصة.
- الإستراتيجيات العاطفية (Affective Strategies): وتعتمد على تعرُّف مزاج الشخص ومستوى قلقه، والحديث عن العواطف، ومكافأة الذات عند تحقيق أداء جيد، والتنفس بعمق أو اللجوء إلى الحديث الإيجابي مع النفس، وهي غالبًا ما ترتبط بالمراحل الأولى من تعلُّم لغة أجنبية.
- الإستراتيجيات الاجتماعية (Social Strategies): كطرح الأسئلة والحصول على تحقق [من أمر ما]، وطلب توضيح ما هو غير مفهوم، وطلب المساعدة في تأدية المهام اللغوية، وإجراء الحوارات مع المتحدثين الأصليين، واستكشاف العادات والتقاليد الثقافية والاجتماعية الأجنبية.
ويدل تنوُّع هذه الإستراتيجيات على الاختلافات بين الأفراد في طريقة تعاملهم مع تعلُّم اللغات، وهو ما يمكن عدُّه عاملًا ذاتيًّا يعتمد على المتعلم وحاجاته وتفضيلاته من جهة، وربّما تؤثر مرجعيته الثقافية فيه من جهة ثانية.
الأثر الثقافي في تعلُّم اللغات:
أجرت د. نيندن سري لينغكاناواتي Nenden Sri. Lengkanawati دراسةً على 114 طالبًا يتعلمون الإنكليزية بصفتها لغةً ثانية في جامعة في إندونيسيا و56 طالبًا يتعلمون الإندونيسية بصفتها لغةً ثانية في جامعتين في أستراليا (3)، وقد استندت الدراسة إلى إستراتيجيات أكسفورد SILL الست (2,3) (المذكورة آنفًا في الفقرة السابقة)، وهدفت الدراسة إلى استكشاف ثلاثة متغيرات (3):
1. مقدار كثافة استعمال الطلاب لإستراتيجيات تعلم اللغة.
2. الفرق في إستراتيجيات تعلم اللغة التي يستخدمها هؤلاء الطلاب.
3. تحديد إستراتيجيات تعلم اللغة التي يستخدمها المتعلمون الجيدون.
واعُتمدت في إجراء هذه الدراسة ملاحظاتٌ سُجلت في الصفوف ومقابلاتٌ مع الطلاب للتحقق من إجاباتهم في تقرير التقييم الذاتي بالاعتماد على فهرس الإستراتيجيات (3).
تحاول هذه الدراسة ربط اختلافات إستراتيجيات التعلم المستخدمة باختلافات الخلفية الثقافية لدى هؤلاء المتعلمين، وقد أظهرت الحسابات الإحصائية على مجموعتي الطلاب الذين يتعلمون الإنكليزية والإندونيسية ما يأتي (3):
أ. يستخدم الطلاب في الجامعات الإندونيسية (الذين يتعلمون اللغة الإنكليزية) الإستراتيجيات المرتبطة بالذاكرة والعاطفية والما فوق إدراكية على نحو أكبرٍ من نظرائهم في الجامعات الأسترالية (الذين يتعلمون اللغة الإندونيسية).
ب. يستخدم الطلاب في الجامعات الأسترالية (الذين يتعلمون اللغة الإندونيسية) الإستراتيجيات الإدراكية والاجتماعية وإستراتيجيات التعويض على نحو أكبر من نظرائهم في الجامعات الإندونيسية (الذين يتعلمون اللغة الإنكليزية).
وقد تبيّن أنَّ خمسًا من بين هذه الإستراتيجيات الست تُستخدم بمقدار مختلف جدًّا بين الطلاب (المرتبطة بالذاكرة، والإدراكية، والتعويض، والعاطفية، والاجتماعية)؛ في حين لم تُلحظ اختلافات كبيرة في استخدام إستراتيجيات التعلم الما فوق الإدراكية (3).
وخلصت هذه الدراسة إلى وجود عدة عوامل تؤثر في مدى استخدام إستراتيجيات معينة لتعلُّم اللغات ومنها خلفية المتعلم الثقافية والتعاون فيما بين المتعلمين والمتحدثين الأصليين ومقدار التحفيز الذي توفره البيئة التعليمية، وتُبين الأبحاث في إستراتيجيات تعلم اللغة أن متعلمي اللغة الناجحين غالبًا ما يلجؤون إلى الإستراتيجيات الإدراكية والما فوق الإدراكية (3).
كفاءة الطاقم التدريسي:
عامل آخر يمكن إضافته إلى مجموع العوامل المساهمة في تعزيز تعلُّم اللغات الأجنبية هو توفر طاقم تدريسي عالي الكفاءة، وهو ما يقوم أساسًا على تأهيل مدرِّسي اللغات الأجنبية تأهيلًا جيدًا. ففي ورقة بحثية تتناول موضوع الاستفادة من تجارب الدول من أجل تحسين تعليم اللغات الأجنبية في الولايات المتحدة يورد كلٌّ من إنغريد بوفال Ingrid Pufahl ونانسي رودس Nancy Rhodes ودونا كريستيان Donna Christian دولة المغرب مثالًا على كفاءة تأهيل المدرسين؛ إذ يُعدُّ مدرِّسو اللغة الإنكليزية فيه من الأفضل على مستوى الدولة (4)، فبعد إنهاء مرحلة الإجازة في اللغة الإنكليزية أو التدريس -التي تتضمن سنة من التخصص في مجال الأدب أو اللغويات- يُمضي المدرِّسون المستقبليون عامًا كاملًا في دراسة طرائق التعليم إلى جانب التدريب العملي (4)، وهذا يدل على أهمية تأهيل الطاقم التدريسي تأهيلًا عاليًا ليكون قادرًا على استخدام أفضل وسائل تدريس اللغات، خصوصًا للطلاب في المراحل الأولى من التعليم.
وبالطبع تؤدي التكنولوجيًا في عصرنا الحالي دورًا بالغ الأهمية في تأمين وسيلة للتواصل مع القنوات الترفيهية الأجنبية أو حتى للتواصل مع المتحدثين بلغات أجنبية والتفاعل معهم، وهو ما يعتمد عليه المدرسون أيضًا -في العديد من الدول التي تُبث فيها برامج تلفزيونية أجنبية مع ترجمة مكتوبة- أساسًا يبنون عليه منهجيتهم التعليمية في الصفوف المدرسية للتلاميذ الذي يتلقون اللغة الأجنبية خارج نطاق المدرسة عن طريق هذه البرامج (4).
وتقترح دانا كارتون Dana Carton استخدام التعليم السياقي في صفوف اللغات الأجنبية الموجهة إلى البالغين، وذلك عن طريق محاكاة حالات متنوعة من الحياة اليومية تثير اهتمام المتعلمين وتُمكِّنهم من التفاعل بعضهم مع بعضٍ عمليًّا معتمدين على مخزونهم اللغوي النظري (5).
إذًا؛ تتعدّد العوامل التي تؤثر في تعلُّم اللغات الأجنبية، فهناك عوامل ذاتية تتمثل في الاستعداد البيولوجي لدى البشر، لا سيما في سنٍّ مبكرة، وإستراتيجيات التعلم المتعددة التي يختلف استخدامها من فرد إلى آخر حسب تفضيلاته، إضافة إلى العوامل الموضوعية كالخلفية الثقافية والاجتماعية لمن يتعلمون لغة أجنبية، ومدى كفاءة المدرِّسين وقدرتهم على تبنِّي وسائل تعليم فعَّالة تراعي الاختلافات الفردية بين المتعلمين. وفي النهاية لا يمكن إغفال دور الممارسة في تعلُّم اللغات الأجنبية كأية مهارة أخرى يُتقنها الإنسان بالتدريب والجهد المتواصلين.
المصادر:
2- Oxford, R. L. Language Learning Styles and Strategies: An Overview. GALA, 2003, pp. 1-25.
3- Lengkanawati, Nenden Sri. How Learners from Different Cultural Backgrounds Learn a Foreign Language. Asian EFL Journal, March 2004. URL: هنا.
4- Pufahl, Ingrid; Rhodes, Nancy; Christian, Donna. Foreign Language Teaching: What We Can Learn from Other Countries. Learning Languages. 2001. URL: هنا
5- Carton, Dana. Situational Learning Modules for the Adult Education Foreign Language Course. The Modern Language Journal, vol. 65, no. 4, 1981, pp. 383–386.