البيولوجيا والتطوّر > التطور
اكتشاف وسيلة دفاع ضد الفيروسات لدى البكتيريا
يواجه البشر تهديدًا يوميًّا بالإصابة بالأمراض الفيروسية، ولصدِّها؛ يشكل جهازنا المناعي استجابةً فوريةً تتبع الغزو الفيروسي.
ويحدث ردُّ الفعل هذا في النباتات والحيوانات جميعها؛ إذ تُحفَظ -تطوريًّا- عديد من المورثات والبروتينات المشفَّرة، والتي تُستخدَم لأغراضٍ دفاعيَّة، في مختلف أنواع الكائنات.
اكتشاف آلية دفاع جديدة لدى البكتيريا يعطينا نظرةً أقرب لفهم كيفيَّة تطور الاستجابة الدفاعية
اكتشف باحثون نظامًا دفاعيًّا مضادًا للفيروسات عند البكتيريا، ويتشارك ببعض المكونات مع نظام رئيس عند الحيوانات.
وتبعًا لتقريرهم المنشور في مجلة Nature، وجد الباحث ماكسويل كوهين وزملاؤه أنَّ بعض أنواع البكتيريا تقاوم الإصابة بالفيروسيات باستخدام آلية مناعية تشبه إحدى المكونات الرئيسة للمناعة الطبيعية الموجودة لدى الحيوانات والمعروفة باسم "مسار cGAS-STING".
وتشير نتائج التقرير إلى أنَّ الأصل التطوريَّ لنظام الدفاع المضاد للفيروسات الموجود عند الحيوانات هو البكتيريا.
بالعودة إلى البداية، تزداد الأدلة التي تشير إلى أنَّ لأنظمة دفاع المناعة الطبيعية عند الحيوانات مشابهاتٌ لدى البكتيريا، فعلى سبيل المثال؛ تتعرَّف مكونات بروتينية تُدعَى مجالات TIR -موجودة ضمن البروتينات الدفاعية عند الثدييات والنباتات- إلى السمات الجزيئية المعروفة باسم PAMPs الخاصة بالفيروسات والجراثيم المسبِّبة للأمراض؛ ومن ثم تطلق استجابة مناعية.
وعلى نحو مشابه، توجد مجالات TIR عند البكتيريا حاميةً إياها من الفيروسات التي تُدعى العاثيات (Phages) أو آكلات البكتيريا (فيروسات تتطفل على الخلية البكتيرية).
بالإضافة إلى ذلك، توجد عند النباتات والحيوانات آلية دفاعية تستهدف الـ (RNA) وتعتمد على بروتينات تُدعى Argonautes*، ولهذه الآلية دور مهم في الاستجابة الدفاعية عند البكتيريا والمتعضيات وحيدة الخلية (Archaea) أيضًا.
ويرجِّح سبب تشابه هذه الآليات المناعية تطوريًّا عند البكتيريا والثدييات إلى كون هذه المسارات قد نشأت بدايةً عند البكتيريا لحمايتها من العاثيات، ومنذ ذلك الحين تطوَّرت هذه الآليات إلى دفاعات مختلفة، ولكنَّها متشابهة لدى الكائنات اللاحقة.
أما السؤال المطروح حاليًّا: كم من الدفاعات المناعية الطبيعية الأخرى الموجودة لدى الحيوانات قد تطوَّرت فعليًّا من النظم البكتيرية القديمة؟
وللإجابة: لنلقي نظرةً أقرب على مسار cGAS-STING، عندما يكتشف مسار cGAS-STING عند الحيوانات فيروساتٍ غازية في الخلية، فإنَّه ينشِّط استجابةً إما تُفعِّل الدفاعات المضادة للفيروسات أو تؤدي إلى تموُّت الخلية.
يبدأ المسار مع أنزيم cGAS، الذي يتعرَّف المادة الوراثية الفيروسية الغازية ويرتبط بها، ومن ثم يُحفِّز إنتاج نوع من جزيئات الإشارة يُسمى cGAMP. يرتبط cGAMP ببروتين STING مؤديًّا إلى بدء سلسلة من الإشارات تُطلِق استجابةً مضادةً للفيروسات.
وقد أراد كوهين وزملاؤه معرفة إن كان دور أنزيم cGAS لدى البكتيريا أساسيًّا في حمايتها ضد الفيروسات كما هو أساسي لدى خلايا الحيوانات والنباتات؛ لذا حلِّلت مناطق الجينوم البكتيري التي تتجمع فيها المورثات المسؤولة عن العملية الدفاعية، ولُوحِظ أنَّ المورثة التي ترمِّز إنزيم cGAS تقع -في كثير من الأحيان- بالقرب من المورثات التي تشارك منتجاتُها في صنع الأنظمة الدفاعية المضادة للعاثيات. ولهذا؛ تساءل العلماء فيما إذا كان لـ cGAS دورٌ في الدفاع ضد العاثيات.
ولإيجاد الجواب، اختبر الباحثون بدايةً نوعين من البكتيريا يعبرون عن الـcGAS اعتياديًّا، وهما النوعان البكتيريان (Vibrio cholerae) ضمات الكوليرا وEscherichia coli الإشريكية القولونية.
وكانت النتيجة أنَّ النظامين كانا قادرين على مقاومة أنواع مختلفة من العاثيات.
ولكن؛ عندما عطَّلوا تسلسل الـ DNA لمورثات نظام cGAS، فقدت البكتيريا مقاومتها ضد الفيروسات بالكامل؛ مما يؤكِّد أنَّ البكتيريا تستخدم مسار إشارات cGAS للدفاع ضد الفيروسات، وعلى نحو مشابه لما تفعله الكائنات حقيقيات النوى (الكائنات متعددة الخلايا التي تحتوي على نواة في خلاياها)، ودُعِيَ هذا النظام: (CBASS)**
وكما لدى الخلايا الحيوانية، يُؤدِّي الأنزيم cGAS إلى تحفيز جزيء إشارة هو cGAMP عند البكتيريا، ولكنَّ التشابه في المسار يتوقف هناـ
ويختلف اتجاه المسار بعد إنتاج cGAMP في البكتيريا عمَّا هو عليه عند الحيوانات؛ إذ يعمل إنتاج cGAMP في الخلية البكتيرية بتنشيط إنزيم phospholipase (فسفوليباز) في بعض أنظمة CBASS.
ويُحطِّم الفوسفوليباز المنشَّط جزيئات الفوسفوليبيد (phospholipid) في غشاء الخلية البكتيرية؛ مما يؤدي إلى موت الخلية البكتيريا المصابة، وهكذا يحمي هذا "الانتحار" الخلوي الخلايا البكتيرية؛ إذ إنَّ تدمير الخلايا المصابة عن طريق هذه العملية يمنع انتشار العدوى إلى الخلايا البكتيرية المجاورة.
أمَّا بالنسبة إلى البعض الآخر من الأنواع البكتيرية التي تفتقر أنظمة CBASS الدفاعية عندها إلى مكونات الفوسفوليباز، فالآلية المُستخدمة ما زالت غير واضحة تمامًا، والأغلب أنَّ تنشيط هذه الأنظمة للبروتينات قد تؤدي إلى "انتحار" الخلايا عن طريق آليات بديلة؛ مثل تحطيم الجينوم البكتيري أو إنشاء ثقب في غشاء الخلية عن طريق عمل البروتين المشكِّل للمسام.
وفي بعض الحالات، تعبِّر أنظمة CBASS عن بروتين دُمِج فيه مجال TIR مع مجال STING مشابه لذلك الموجود عند حقيقيات النوى.
ويشير الحفظ التطوري لهذه المجالات -في النظام الدفاعي المضاد للفيروسات عند البكتيريا- إلى أنَّها قد تمثل الأصل التطوري القديم لنظام دفاع cGAS-STING لدى حقيقيات النوى.
وعلى الرغم من أنَّ بعض أنظمة CBASS تحتوي على مورثات cGAS ومكوناتها اللازمة لموت الخلايا البكتيرية فحسب فإن لأنظمة أخرى مورثات تساهم منتجاتها بعملية ubiquitination *** التي يتفذها بروتين يوبيكيوتين.
وفي هذه العملية، يُربَط اليوبيكيوتين بالهدف عن طريق تفاعل إنزيمي.
والمثير للاهتمام هنا تضمنُ أنظمة CBASS البكتيرية بروتيناتٍ مشابهة في بعض المجالات لتلك الخاصة بعملية ubiquitination عند حقيقيات النوى: مثلًا؛ مجالات E1 و E2، والتي توجد عادةً في الإنزيمات التي تتوسط تنشيط ونقل اليوبيكيوتين بالتتالي، ومجالات JAB الموجودة في البروتينات التي تزيل ارتباط يوبيكيوتين بالأهداف.
وتُحسِّن هذه العملية من شدة الاستجابة المناعية عند الحيوانات ومداها؛ مما يعطي رابطًا آخر بين الاستجابات البكتيرية والحيوانية المضادَّة للفيروسات.
ولكنَّ مكونات ubiquitination في نظام CBASS عند بكتيريا E.coli مطلوبة للدفاع ضد بعض العاثيات وليس كلها؛ مما يشير إلى أنَّ هذه البروتينات قد تسمح للأنظمة بالتعرف إلى بروتينات أو ميزات معينة بدلًا من خواص أكثر عمومًا عند العاثيات، ومنه إلى تكرار نشاط هذه الأنظمة.
والآن، هل يستطيع الفيروس الغازي مقاومة هذه الآلية؟ وكيف؟
من المحتمل جدًّا أن تكون بعض العاثيات قد طوَّرت طرائق لكبح أنظمة CBASS؛ إذ تستهدف بروتيناتها المثبِّطة أنظمة الدفاع عند البكتيريا، وتعمل في حجب دفاعات الأنظمة الدفاعية الأخرى.
ماذا فعلت البكتيريا للتهرُّب من الهجوم الفيروسي المضاد؟ وتجنب البروتينات الفيروسية المثبِّطة؟
تشفِّر أنظمة CBASS المختلفة مجموعةً متنوعةً من جزيئات ومكونات الإشارة قليلة النكليوتيدات الحلقية؛ مما يشير إلى أنَّ "الانتحار" الخلوي يحدث عن طريق آليات عدَّة.
ولكنَّ تكيف الأنظمة البكتيرية المضادة للعاثيات سيؤدي حتمًا إلى تطوير التدابير المضادة عند هذه الفيروسات، وستكون دراسة العاثيات المثبِّطة لأنظمة CBASS مجالًا مثيرًا للبحث في المستقبل.
بعد أن تعرَّفنا إلى الآليات المناعية بالتفصيل، يبقى أن نكتشف كيف تدرك الخلية أنَّها عرضةٌ للهجوم؟
إنَّ أحد الجوانب الرئيسة -الذي ما يزال مجهولًا-لوظيفة cGAS الدفاعية عند البكتيريا، هي الإشارة التي يتلقاها الجهاز المناعي ليتمكن من تمييز حدوث عدوى فيروسية عند حقيقيات النوى، يمكن رصد أي DNA فيروسي في السيتوبلازم بوصفه كيانًا غريبًا؛ لأن وجود الـDNA عندها يقتصر عادةً على النواة ويغيب عن السيتوبلازما.
ومن المفترض أنَّ تحديد النوع البكتيري الذي يفتقر إلى النواة للحمض النووي الغريب يتطلب مستشعرًا ذو قدرة عالية الدقة للتمييز بين الـDNA الفيروسي -بعد دخوله سيتوبلازم الخلية البكتيرية- والـDNA البكتيري.
ويتمثل أحد الاحتمالات في أنَّ أنظمة CBASS تتعرف إلى DNA العاثيات -على وجه التحديد- عندما يكون في الحالة الخطية الخاملة فور دخوله الخلية البكتيرية.
وتأتي أهمية دراسة كوهين (Cohen) وزملائه من كونها تسلِّط الضوء على أوجه الشبه المذهلة بين المناعة عند حقيقيات النوى والبكتيريا؛ إذ يزداد عدد الأنظمة الدفاعية المكتشفة والمعروفة لدى البكتيريا، ومن المحتمل وجود عديد من الروابط المثيرة للاهتمام وغير المكتشفة بعد في حلقة التطوُّر.
* Argonautes: هي وحدات ربط عالية التخصُّص تستوعب مكونات الحمض النووي الرييي RNA الصغير وتنسِّق عمليات الصمت المورثي مع عوامل بروتينية أخرى، لمعلومات أكثرهنا
** CBASS: cyclic-oligonucleotide-based anti-phage signalling system نظام الإشارة المضاد للعاثيات المعتمد على قليل من النكليوتيدات الحلقية
*** ubiquitination: عملية تعديل ما بعد الترجمة توجَّه فيها البروتينات على نحو عام للتحلل بواسطة البروتياز أو الليزوزومات، وقد تشارك في عديد من العمليات الخلوية الأخرى، بما في ذلك تنظيم النسخ، إصلاح الحمض النووي، تنظيم التفاعلات البروتينية وارتباط البروتينات مع يوبيكيوتين (Ubiquitin) وهو بروتين صغير يتألَّف من 76 حمض أميني يُحفظ على نحو كبير، ويُعبَّر عنه في نطاق واسع في الخلايا حقيقية النوى جميعها، للمزيد اقرأ هنا.
المصادر:
- Maxwell K. Bacterial twist to an antiviral defence. Nature. 2019;574(7780):638-639. هنا
- Stringer D, Piper R. Terminating protein ubiquitination. Cell Cycle. 2011;10(18):3067-3071. هنا
- Ubiquitination - an overview | ScienceDirect Topics [Internet]. Sciencedirect.com. 2020 [cited 28 April 2020]. Available from: هنا
- Meister G. Argonaute proteins: functional insights and emerging roles. Nature Reviews Genetics. 2013;14(7):447-459. هنا