البيولوجيا والتطوّر > التطور
لماذا تتطور فيروسات الـRNA بسرعة كبيرة؟
تتميَّز فيروسات الـRNA بمعدلات تطفُّر عالية -تصل إلى مليون مرة أكثر من مضيفاتها- وترتبط هذه المعدلات المرتفعة مع الفوعة (الإمراضية) المعزَّزة وقابلية التطور، وتُعدُّ هذه السمة مفيدة للفيروسات إلى حد معيَّن، ولكن؛ عندما تصل معدلات التطفُّر إلى درجات مرتفعة للغاية تصبح ذات أثرٍ سلبي بالنسبة إلى الفيروس، ويمكن أن تؤدي زيادةٌ صغيرةٌ في هذه المعدلات إلى انقراض فيروسات الـRNA.
وغالبًا ما يفترض الباحثون أنَّ الانتقاء الطبيعي قد حسَّن معدَّل تشكُّل الطفرات عند فيروسات الـRNA؛ ولكنَّ البيانات الجديدة تُظهِر أنَّ الانتقاء يكون أقوى من أجل تحقيق التكاثر الأسرع، وأنَّ أنزيمات البوليميراز (polymerase) الأسرع ترتكب أخطاءً؛ أي تسبب طفرات أكثر (1).
(يتمثل الدور الأساسي لأنزيم البوليميراز الخاص بالـ DNA في تكرار الجينوم بدقة وكفاءة من أجل الحفاظ على المعلومات الوراثية وتأمين نقلها عبر الأجيال) (2).
ويبدو أنَّ معدَّل التطفُّر الخيالي لفيروسات الـRNA ينتج جزئيًّا من تأثير الانتقاء الطبيعي في سمات أخرى، وليس بسبب كون هذا المعدَّل المرتفع مثاليًّا، في حد ذاته (1).
ولكن؛ ما علاقة الطفرات بالتطور؟
الطفرات هي الوحدات الرئيسة التي يقوم على أساسها التطور؛ إذ تُمثل الاختلاف الذي يمكن أن يعمل عليه الانتقاء الطبيعي، وهي سبب التجديد الذي نراه. ومع ذلك؛ فإنَّ معظم الطفرات ليست مفيدة للكائنات الحية، ومن الممكن أن يظهر تأثيرها في الكائنات الحية في جعلها تترك عددًا أقل من الأفراد عبر الأجيال المتلاحقة؛ لذا يكون عمل الانتقاء الطبيعي على هذه الطفرات أن ينتزعها من الجماعة التي حدثت فيها.
بعدما عرفنا ما هي علاقتها بالتطور، هل الطفرات كلها مفيدة؟
في حين تكون نسبة قليلة من الطفرات مفيدةً وبعضها غير مهم (محايد أو شبه محايد)؛ فإنَّ جزءًا كبيرًا منها ضار.
وقد تتغير الطفرات الضَّارة بالمقارنة مع الطفرات المفيدة بمرور الوقت، وتبعًا لوجودها في كائنات حية مختلفة وبيئاتٍ مختلفة، ويُعتقَد أنَّ الطفرات الضّارة تتفوق عدديًّا على الطفرات المفيدة دائمًا (1).
يبقى هذا صحيحًا سواءً كان معدل التطفُّر لدى الكائن الحي منخفضًا أو مرتفعًا، وتختلف الأحياء في معدل الطفرة لكل نيوكليوتيد* كثيرًا (1).
تلخِّص الصورة معدَّلات الطفرة البيولوجية من الأسرع إلى الأبطأ تبعًا لحجم الجينوم:(Viroid) الفيروئيد (عناصر RNA التي تسبب بعض الأمراض النباتية دون تشفير أيَّة مورثات) والفيروسات الـ(RNA) وبدائيات النوى (بكتيريا عصوية) وحقيقيات النوى (القوارض).
إنَّ معدَّلات التطفُّر قابلة للتطوّر ويمكن أن تستجيب للانتقاء الطبيعي:
في بعض الحالات، لا توجد فائدة من تشكُّل الطفرات على الإطلاق، ومن الأفضل أن يعمل الكائن الحيُّ "المتكيف تمامًا" مع بيئته الثابتة على تقليل معدَّل التطفُّر إلى الصفر، وبما أنَّه لا توجد طفرات أكثر فائدة؛ لذلك من المحتمل أن تكون الطفرات جميعها أسوأ من النمط الوراثي الحالي.
ومن جهة أخرى، إذا وُضِع كائن ما فجأةً في بيئة لا يتكيف معها جيدًا، فهناك احتمال أكبر لتشكُّل الطفرات المفيدة وسيكون معدَّل التطفُّر غير الصفري أفضل للأجيال القادمة جميعها.
وفي المقابل، كلما كانت البيئات التي يعيش فيها الكائن الحي أكثر تنوعًا، وكانت الكائنات الحيَّة أقل قدرةً على التأقلم في تلك البيئات، سيكون من الأفضل زيادة معدَّل التطفُّر؛ إذ توجد فرصةٌ أكبر لتشكُّل الطفرات المفيدة.
وقد لا تكون الكائنات الحية قادرة على تغيير جزء الطفرات الضارة، ولكن؛ لديها بعض السيطرة على معدَّلات التطفُّر، وهكذا يمكن أن تحدَّ من عدد الطفرات الضارة التي ستنتقل إلى الأجيال القادمة.
وبالطبع، يترافق معدل التطفُّر الأقل مع مقايضةٍ تقتضي التنازل عن ميزةٍ ما من أجل الحصول على أخرى، والتي ستحدُّ أيضًا من الجزء الأصغر من الطفرات المفيدة -المورثتين المتقابلتين- في البيئة الحالية؛ ممَّا سيساعد الكائن الحي على ترك مزيد من الأحفاد بمرور الوقت.
بالإضافة إلى أنَّها ستحدُّ من تراكم الاختلاف (المحايد أو شبه المحايد) في أفراد النوع أيضًا، والذي قد يكون مفيدًا إذا تغيرت الظروف في بيئةٍ جديدةٍ أو بعد تغير المناخ.
ماذا فعلت الخلايا لتتحكم بمعدَّل التطفُّر؟
ما يزال معدَّل التطفُّر في أشكال الحياة الخلوية جميعها قيد الانتقاء الطبيعي، وقد طوَّرت الخلايا طرائق عديدة لتعديل معدَّل التطفُّر وخفضه، وهو المترافق مع الأداء السريع لأنزيم البوليميراز في مضاعفة جينوماتها الكبيرة.
وهذا يتضمن تدقيق مكونات أنزيمات البوليميراز نفسها، ومجموعة متنوعة من البروتينات والأنظمة الأخرى، للتحقق من الأخطاء في الحمض النووي وإصلاح الأنواع الشائعة لتلفه.
تحتوي بعض فيروسات الـDNA ذات الجينومات الكبيرة على بروتينات إصلاح الحمض النووي DNA أيضًا، وبعض فيروسات الـRNA الكبيرة لديها قدرة جزئية على تدقيق الأخطاء التي قد تحدث في أثناء التضاعف وتصحيحها(1).
ويمكن عزل الفيروسات والخلايا الطافرة ذات معدَّلات التطفُّر المنخفضة عن طريق تعريض الخلايا أو الفيروسات للمطفِّرات (أي شيء يسبب تغيير في DNA الخلية).
وقد تؤدي التغيرات التي تسببها الطفرات في الحمض النووي إلى الإضرار بالخلايا وأمراض مثل السرطان. وتشمل أمثلة المواد المطفِّرة المواد المشعة والأشعة السينية والأشعة فوق البنفسجية وبعض المواد الكيميائية) (4)، ولكن؛ مثلما توجد مورثات وبروتينات تقلِّل من معدَّلات التطفُّر تمامًا، فهناك طفرات لكسر هذه البروتينات، وهناك مورثات أخرى تزيد معدَّلات التطفُّر، والتي تُعدُّ مفيدةً في بعض البيئات (1).
بماذا ميَّزت الطفرات هذه الفيروسات؟
ربما تكون فيروسات الـRNA أكثر الكيانات البيولوجية إثارةً للاهتمام في مجال دراسة معدَّلات التطفُّر؛ إذ ترمِّز هذه الفيروسات آليات تكاثر خاصة بها، وبهذا يمكنها تحسين معدَّلات التطفُّر لتناسب قدرتها على التأقلم (مقارنةً بفيروسات الـDNA الصغيرة التي لا ترمِّز أنزيمات اصطناع الـDNA الخاصة بها، وهكذا فهي تعتمد في تضاعفها على بروتينات الخلية المضيفة لها (5)؛ أي تستخدم أنزيمات البوليميراز من الخلايا المضيفة) (1).
ويُسفر توريث معدَّلات التطفُّر العالية عن نسل يختلف بـ1-2 طفرة عن الأبوين منتجًا جيلًا حاملًا للطفرات، والذي من شأنه أن يعقد مفهومنا عن مرونة النمط الوراثي.
إنَّ قدرتها السريعة على تغيير جينومها تكمن وراء إمكانية ظهورها في مضيفين جديدين ومقاومة المناعة التي يسببها اللقاح، والتطوُّر للتغلب على المقاومة التي تبديها محاصيلنا ضد الأمراض أيضًا؛ سواءً كانت هذه المقاومة متأصلةً بالنبات أو بسبب التعديل الوراثي.
هل سمعتم بأسطورة أخيل الشهيرة؟
كما هو الحال في أسطورة كعب أخيل، فإنَّ معدَّلات التطفُّر عند فيروسات الـRNA هي نقطة الضعف التي يمكن أن تؤدي إلى التقليل منها إذا ما استُغِلَّت؛ إذ يمكن للباحثين والأطباء زيادة معدَّل التطفُّر عند هذه الفيروسات باستخدام نظائر النيوكليوزيد** (nucleoside)، وتُسبِّب زيادة (3-5) أضعاف في معدَّل التطفُّر حدوث الطفرات المميتة في الفيروسات التي تصيب الإنسان مثل فيروس شلل الأطفال والإنفلونزا (1).
وتتسبب المطفِِّرات الخارجية بحدوث طفرات إضافية بما فيه الكفاية، والتي تكون ضارة غالبًا؛ ممَّا يجعل سلالة فيروسات الـRNA أقل قدرةً على التأقلم، وهذا الأمر يؤدي في النهاية إلى تدهور بيئيٍّ لأفراد النوع. وبطريقة أخرى، وجد الباحثون أنَّ معدل التطفُّر المرتفع لفيروسات الـRNA يفرض قيودًا تتمثل في حجم الجينوم المحدود؛ أي تكون معدَّلات الطفرة لكل نيوكليوتيد مرتفعة جدًّا، بحيث لا يمكن زيادة حجم الجينوم الخاص بها دون وجود طفرات أكثر لكل جينوم (1).
هل ستؤدي الطفرات إلى قتل هذه الفيروسات؟
يقترح الباحثون أنَّ معدلات تطفُّر فيروسات الـRNA تطوَّرت بحيث تكون تحت عتبة الطفرات المميتة فحسب (يشار إليها باسم عتبة الخطأ أحيانًا)، ولكن؛ هذا الانتقاء للتنوع الوراثي والعواقب الأخرى لمعدَّل التطفُّر المرتفع يدفع فيروسات الـRNA لتقترب من حدودها الكارثية.
ومن الصعب تقييم هذا الافتراض والتحقق من أن فيروسات الـRNA لديها معدلات التطفُّر المثلى بسبب الانتقاء الطبيعي (1).
إنَّ هذا الغوص العميق في دقة تضاعف فيروسات الـRNA سيوجّه تركيز الباحثين إلى عواقب وجود معدَّلات تطفُّر أعلى من المطلوب عندما تنسخ فيروسات الـRNA مادتها الوراثية، وهذا يجعل فَهم الاستخدامات السريرية للطفرات المميتة أسهل.
وكما هو معروف بأنَّ معدَّل التطفُّر عند البكتيريا يؤدي إلى التعدد الشكلي*** (Polymorphism)، فإنَّ هذا العمل يجب أن يقوي المجال الناشئ حديثًا لفَهم تغير معدَّل التطفُّر عند فيروسات الـRNA.
بالإضافة إلى ذلك، يعود الفضل إلى زمن التضاعف (زمن الجيل) في تكوين فهم أكبر لقابلية تطور الفيروس، ولكن؛ لن نستطيع الاستفادة من هذه السمة عند دراسة الكائنات متعددة الخلايا بسبب صعوبة قياسها.
وأخيرًا، يجب إعادة النظر في معدلات التطفُّر العالية التي تتمتع فيروسات الـRNA بها وتنوعها الوراثي حتى يُكشف عن الواقع البيولوجي الأكثر تعقيدًا (1).
حاشية:
* النكليوتيد: (اللبنة الأساسية للأحماض النووية، الـRNA والـDNA هي متماثرات (polymers) مصنوعة من سلاسل طويلة من النيوكليوتيدات، ويتكون النوكليوتيد من جزيء سكر؛ إمَّا ريبوز في RNA أو ريبوز منقوص الأوكسجين في DNA، وهو متصل بمجموعة فوسفات وأساس يحتوي على النيتروجين؛ إمَّا بيوريني(purine) الأدنين والغوانين أو بيريميديني (pyrimidine) السيتوزين والتايمين واليوراسيل.
والأسس المستخدمة في DNA هي الأدينين (A) والسيتوزين (C) والغوانين (G) والتايمين (T).
وفي RNA يأخذ اليوراسيل (U) مكان التايمين) (3).
**النكليوزيد: (جزيء صغير يتكون من أساس نتروجيني من البيورين (purine) أو البيريميدين (pyrimidine) مرتبط إلى سكر خماسي إما الريبوز أو الريبوز منقوص الأوكسجين) (6).
***التعدد الشكلي: (تتضمن هذه الظاهرة واحدًا من اختلافين أو أكثر في تتالي محدد من الحمض النووي DNA؛ النوع الأكثر شيوعًا هو اختلاف أساس آزوتي واحد ضمن سلسلة الـDNA، ومن الممكن أن يكون أكبر حجمًا ويشمل امتدادات أطول للحمض النووي) (7).
المصادر:
- Duffy S. Why are RNA virus mutation rates so damn high?. PLOS Biology. 2018;16(8):e3000003. هنا
- Garcia-Diaz M, Bebenek K. Multiple Functions of DNA Polymerases. Critical Reviews in Plant Sciences. 2007;26(2):105-122. هنا
- Brody L. Nucleotide [Internet]. Genome.gov. 2020 [cited 4 June 2020]. Available from: هنا;
- NCI Dictionary of Cancer Terms [Internet]. National Cancer Institute. 2020 [cited 4 June 2020].Available from: هنا;
- Jiang M, Imperiale M. Design stars: how small DNA viruses remodel the host nucleus. Future Virology. 2012;7(5):445-459 هنا
- Lodish H. Molecular cell biology. 4th ed. New York: W.H. Freeman; 2000. هنا
- Collins F. Polymorphism [Internet]. Genome.gov. 2020 [cited 4 June 2020]. Available from: هنا;