البيولوجيا والتطوّر > الأحياء الدقيقة
الموت الأسود حكاية ترويها الأسنان
انتشر الموت الأسود أو الطاعون العظيم في أنحاء أوروبا جميعها بين عامي 1346 و1353، وأدَّى إلى زوالٍ سريع ولكنَّه مؤلم للغاية، فقد وصل إلى 60 في المئة من السكان (ربما قرابة 200 مليون شخص).
فكان ثمة بكتيريا تُسمى اليرسينية الطاعونية "Yersinia pestis" تُسبِّب الطاعون، وتنتقل إلى البشر عن طريق البراغيث.
وقد سافرت الحشرات متطفلةً على الجرذان السوداء التي ازدهرت على طول الطرق التجارية؛ ممَّا ساعد في انتشار الطاعون.
تقول عالمة الأحافير ماريا سبايرو "Maria Spyrou" من معهد ماكس بلانك "Max Planck" لعلم التاريخ البشري: "كان الموت الأسود جزءاً من أكبر وباء حدث في أوروبا وفي المناطق المجاورة بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر، ويَعدُّه كثيرٌ أنَّه الأكثر فتكاً بين أوبئة الطاعون الثلاثة التي حدثت في تاريخنا، وعن طريق تحليل الحمض النووي القديم من الأوبئة السابقة وتحليل ذلك مع الأدلة الأثرية والتاريخية، يمكننا البدء في بناء تاريخ تلك الأوبئة بتفصيل كبير حقاً".
وقد تعاونت سبايرو وفريقها من خبراء الكشف عن الأمراض مع علماء الآثار بحثاً عن أدلة وصول الطاعون إلى أوروبا ونمط انتشاره اللاحق، وقد زاروا المقابر القديمة في أنحاء القارة جميعها آخذين عينات الحمض النووي من أسنان الأشخاص الذين يُحتمل أنَّهم وقعوا ضحيةً للطاعون.
"تحتوي الأسنان في حياة الشخص على عديد من الأوعية الدموية التي تمر بها، وهي تغلِّف أيَّة بكتيريا أو فيروسات قد أثَّرت في دم هذا الشخص في حياته، وهذا ما نعتقده، فعن طريق أخذ عينات من تلك الأسنان، تزيدُ فرصنا لالتقاط الحمض النووي لمسببات الأمراض المنقولة بالدم مثل بكتيريا اليرسينية الطاعونية".
ثم أعاد الباحثون بناء جينومات بكتيريا الطاعون من مواقع مختلفة استناداً إلى موقع أكثر سلالات أسلاف البكتيريا، وهم يعتقدون أنَّ العامل الممرض وصل أول مرة إلى أوروبا الشرقية قبل أن ينتشر بسرعة عبر بقية القارة على الأرجح؛ ولكنَّه التقط طفرة جينية وحيدة مع انتشاره.
"بعبارة أخرى، ما نعتقد أنَّنا نجده هنا أنَّ الموت الأسود في أوروبا نتج عن استنساخ واحد؛ لذلك سلالة واحدة".
وتشير النتائج إلى أنَّ الطاعون أُدخِل إلى أوروبا مرة واحدة فحسب، وبعدها انتشر واكتسب الطفرة خالقاً بؤراً محلية له على امتداد القارة، وبذلك نستنتج أهمية دراسة الحمض النووي وتركيبه لأي كائن حي يسبب الأوبئة، وتحديداً مكان وصول المرض ليساعد في القضاء عليه والحد من انتشاره وتكاثره. (1,3)
-هامش:
أوبئة الطاعون الثلاثة:
- الطاعون الدبلي هو أكثر أشكال الطاعون شيوعاً، وهو ينجم عن لدغة برغوث مصاب بعدوى المرض، وتخترق عصيات اليرسينية الطاعونية المُسببة للطاعون الجسم بعد اللدغة وتنتقل عبر الجهاز اللمفي وتصل إلى أقرب عقدة لمفية وتبدأ بالتكاثر فيها. ومن ثم تلتهب العقدة اللمفية وتصبح متوترة ومؤلمة وتُسمَّى الدبل.
- أما طاعون إنتان الدم فيظهر في حال انتشار العدوى بواسطة مجرى الدم عقب الإصابة بطاعون دبلي يُترك من دون علاج، أو أنَّه يظهر في إطار إبداء أولى أعراض الإصابة بعدوى اليرسينية الطاعونية، ويمكن أن يسبب النزيف ونخر الأنسجة (يحوِّل لونها إلى الأسود) والإصابة بالصدمة.
- الطاعون الرئوي أو الطاعون الذي يصيب الرئتين هو أشدُّ أشكال الطاعون فتكاً، وهو شكل نادر من المرض، ويمكن ألا تزيد فترة حضانته على 24 ساعة، وينجم هذا الطاعون في العادة عن انتشار الطاعون الدبلي بمرحلة متقدمة في الرئتين، علماً بأن أي شخص مصاب بالطاعون الرئوي قد ينقل عدوى المرض إلى الآخرين بالرذاذ المتطاير من فمه، ويمكن أن يقتل الطاعون الرئوي الشخصَ المصاب بعدواه إذا تُرِك دون علاج ولم يُشخَّص ويُعالَج في مرحلة مبكرة (2).