العمارة والتشييد > من أعلام العمارة
أبولودوروس دمشقيٌّ حفر اسمه في تاريخ العمارة الرومانية
إذا أردنا الحديث عن تاريخ العمارة الرومانية القديمة، لا بُدَّ أن نذكر أحد أهمِّ المؤثرين فيها؛ أبولودوروس الدمشقي (Apollodorus of Damascus) المعماري الدمشقي الذي خلَّد اسمه بإنجازاتٍ لا تُنسى في العمارة الرومانية القديمة.
كان صديقًا للإمبراطور الروماني تراجان، ويرجع الفضل إليه في تصميم معظم المباني الإمبراطورية التي أُنشِئت في عهد تراجان، وكان مؤثِّرًا مهمًّا في نمطها المعماري، بما في ذلك الحمامات والعمود والسوق العامَّة التي حملت اسم تراجان، إضافةً إلى الجسر المثير للإعجاب فوق نهر الدانوب، وستُفصَّلُ هذه الأعمال تباعًا في هذا المقال.
وقد امتلك أبولودوروس معرفةً سليمةً بتقنياتِ التشييد المتقدمة في مشاريعه، وكتب عددًا من الأطروحات التقنية ولكن لم يصل إلينا أيُّ شيءٍ منها.
نشب خلافٌ بينه وبين الإمبراطور هادريان فيما يخصُّ تصميم أحد المعابد، ممَّا أدَّى إلى نفيه، ثمَّ إعدامه في العام 130 م تقريبًا (1).
ومن أهم الإبداعات المعمارية التي خلَّدت اسمه حتى يومنا هذا:
جسر تراجان: بناه الرومان فوق نهر الدانوب بين عامي 103 و105 م بأمرٍ من الإمبراطور تراجان، وكان أول جسرٍ يبلغ طوله كيلومترًا واحدًا فشكَّل أعجوبة الهندسة الرومانية، خاصةً مع مراعاة ظروف الموقع الصعبة والموارد المتاحة والوقت القياسي للبناء، وكان مؤشِّرًا على إتقان تقنيات البناء؛ إذ بُنيَ بسرعةٍ وفعالية، وما تزال أجزاء منه كالدعامات قائمةً حتى اليوم، وتؤكِّد هذه الأعمدة مع السجلَّات التاريخية القديمة وجود الجسر قرب نهر الدانوب (2).
درس عددٌ من الباحثين الجسر وحاولوا إعادة تمثيله، لكنَّ قلَّة المعلومات جعل ذلك صعبًا جدًّا، والتمثيل الوحيد المؤكَّد هو ذلك المنقوش على عمود تراجان، ويضمُّ هذا التمثيل بواباتٍ وأرضيةً مع درابزين وخمسة مجازاتٍ خشبيةٍ مكونةٍ من ثلاثة أقواس متوازية، ويتألَّف كل قوس من أربع عوارض، وترتبط الأعضاء الشعاعية بالأقواس الثلاثة، ولكن لا يُعَدُّ هذا التمثيل دقيقًا تمامًا بسبب عدم تناسب ارتفاع الدرابزين وعرض الجسر عند مقارنتهما بطول الجسر أو مجازات الأقواس، وتعزى هذه التشوُّهات إلى نقص المساحة المتوفِّرة على العمود للنحت (2).
أجرى كل من (Garasanin) و(Vasic) قياساتٍ تفصيليةٍ لبقايا الدعامة على الجانب الصربي من نهر الدانوب، ويشير مخطَّط المسقط والواجهة المقدَّمان من قبلهما إلى وجود ستة مستويات شاقولية من الأقواس الثلاثية المتوازية بتباعد (1.8-1.9) م عن بعضها البعض، ووجدوا أنَّ أبعاد الدعامة العامة (14.69×10.21) م وعرض الممر قرابة 9 م. وأجرى معهد حماية الآثار الثقافية في صربيا مسحًا أثريًّا تحت الماء في موقع الجسر ووجدوا أن طول الجسر من الضفة الجنوبية إلى الشمالية 1097.5 م، أي يبلغ طول الجسر من البوابة إلى البوابة 1158.33 م (2).
لم يُعثَر على وصفٍ لنوع الخشب المستعمل في بناء جسر تراجان في المراجعات الأدبية، وبعد تحليل أنواع مختلفة من الأشجار الموجودة على نهر الدانوب، رُجِّح استعمال أبولودوروس للأشجار المحلية من أجل بناءٍ فعَّالٍ واقتصادي، وكان البلوط الأوروبي وشجر النغت الأوروبي (European Alder) من أرجح المرَّشحين للاستعمال في البناء (2).
عمود تراجان: أُنشئ عام 113 م ويقع في ميدان تراجان في روما، وهو نصبٌ تذكاريٌّ مزيَّنٌ بالنقوش التي تُظهِر الحملات العسكرية للإمبراطور تراجان على داتشيا (Dacia رومانيا اليوم) التي حدثت بين أعوام (101-102) م و(105-106) م، ويُعَدُّ هذا العمود مصدرًا ثمينًا للمعلومات التاريخية المتعلِّقة بالجيش الروماني وشاهدًا دائمًا على حبِّ الرومان للعمارة الضخمة التي أنشئت للاحتفال بالانتصارات العسكرية والقادة الرومان.
يبلغ ارتفاع العمود 38 م، ويتكوَّن من 19 أسطوانة من الرخام الإيطالي الأبيض، ويقف على قاعدة من 8 كتل وتعلوه قاعدةٌ من كتلتين، وكان هناك تمثالٌ برونزي للإمبراطور تراجان على القاعدة العلوية ولكنه استُبدل لاحقًا، وعند وفاة الإمبراطور دفن رماده تحت أساس العمود.
يخلق المنظور غير المنتظم ووجود أكثر من 2600 شخصية منحوتة في دوامة حول العمود سردًا حيًّا بطول 200 م من المشاهد التي توثِّق الحملات على داتشيا مع وجود تراجان نفسه في العديد من المواقف؛ مثل قيادة الجيش ومحاكمة السجناء، وتحمل القاعدة أيضًا نحوتًا بارزةً توثِّق أسلحة ودروع داتشيا المستولى عليها وأربعة نسور تحمل أكاليل النصر (3).
سوق تراجان: مجمَّعٌ من المباني التي تضمُّ عددًا من الوظائف المختلفة يغلب عليها الطابع التجاري كسوقٍ مغطَّاة وواجهات متاجر صغيرة ومجمَّعٍ سكني، شُيِّد بين أعوام (107-110) م في عهد تراجان بثلاثة مستويات مختلفة في التلال الواقعة خلف ميدان تراجان. وشُيِّدت مبانيه إلى حدٍّ كبير باستعمال الخرسانة واستعمال الآجر للإكساء، ويُعَدُّ السوق أحد أفضل أمثلة العمارة الإمبراطورية الرومانية باستعمال هذه المواد (4)، وقد اعتمد أبولودوروس تصميمًا بسيطًا مبتعدًا عن الواجهات الفخمة في ذلك الوقت (5).
أصبح المجمَّع بأكمله جزءًا من قلعةٍ في القرون الوسطى وبدأ التنقيب عن الموقع في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وسرعان ما اكتسب اسم سوق تراجان، وهو الآن المقر الحالي لمتحف الميادين الإمبراطورية (4).
البانثيون (Pantheon): لم يُعرَف الغرض من المبنى بدقَّة، ولكنَّ الاسم وزخرفة الشرفة تشير إلى معبدٍ من نوعٍ ما، وقد يكون مصمَّمًا ليشكِّل مكانًا يمكن للإمبراطور الظهور منه إلى العامة.
بدأ تشييده في عهد تراجان وانتهى في عهد هادريان عام 125 م، ويشتهر بقبَّته العظيمة بارتفاع 43.2 م، والتي تتوِّجها فتحةٌ سماويةٌ يبلغ قطرها 8.8 م (6).
استعرضنا معكم لمحةً بسيطةً عن أهمِّ ما قدَّمه المعماري أبولودوروس للعمارة الرومانية، فهل تعتقدون أنَّ إنجازاته المعمارية نالت الاهتمام الكافي أم أنَّها تستحقُّ تسليط المزيد من الضوء عليها؟
المصادر:
2_Mehrotra A, Glisic B. Reconstruction of the appearance and structural system of Trajan's Bridge. Journal of Cultural Heritage [Internet]. 2015 [cited 6 June 2020];16(1):65-72. Available from: هنا
3_Cartwright M, Cartwright M. Trajans Column [Internet]. Ancient History Encyclopedia. 2020 [cited 19 June 2020]. Available from: هنا
4_Cartwright M, Cartwright M. Trajan's Market [Internet]. Ancient History Encyclopedia. 2020 [cited 22 June 2020]. Available from: هنا
5_Bunson M. Encyclopedia of the Roman empire. New York: Facts On File; 2002. available on: هنا
6_Cartwright M, Cartwright M. Pantheon [Internet]. Ancient History Encyclopedia. 2020 [cited 25 June 2020]. Available from: هنا