الموسيقا > موسيقيون وفنانون سوريون وعرب
مقابلة مع ميساك باغبودريان ... مايسترو الفرقة السيمفونية الوطنية
كنوطة موسيقية تبدّد صمت المكان كان اللقاء معه، بشغف تحدّث إلينا، بمتعة استمعنا إليه، حدّثنا عن الموسيقى وبداياته معها، عن الاوركسترا، عن الفرقة وجولاتها، الماضي والمستقبل ما قدّمت وما سوف تقدّمه .
مع قائد الفرقة السيمفونية الوطنية ميساك باغبودريان جمعنا هذا اللقاء في أروقة المعهد العالي للموسيقى .
البداية كانت عودة في الزمن إلى الطفولة، لنسأل ميساك عن نشأته، بدايات ميله الموسيقي، دور عائلته في تشجيعه بالعزف على البيانو
"في مجتمعنا لا يوجد وسيلة لمعرفة رغبات الطفل، فلا توجد مؤسسات معنية باكتشاف مواهب الطفل. كنت كما باقي الأطفال السوريون لدي من وقت الفراغ ما دفع الأهل بالبحث عن ما يشغل هذا الوقت، فكان التقديم لِلمعهد العربي للموسيقى (معهد صلحي الوادي حاليا) و تم قبولي بعد إجراء فحص قبول بسيط إلى حد ما " .
يكمل قائلاً : " في البداية كان الأمر بمثابة عقوبة، ففي حين كان أترابي يقضون وقتهم باللعب والتسلية، كُنت مجبراً حينها لقاء وقت الفراغ في المعهد .في عمر الرابعة عشر، نشب خلاف مع الأستاذ صلحي الوادي، السبب كان مزاجيتي التي كانت تدفع بي لاختيار ما أحب بدلاً عن ما يجب التدرّب عليه، فانتهى بي المطاف بالخروج من المعهد. بعد سنة التحقت بمعهد شبيبة الأسد للموسيقى، حينها كان تحت إشراف بليغ سويد، مرونته بالسماح لي بالتدريب على ما أحب سمح لي أن أعبر عن نفسي، و أصبحت الموسيقى شيء ممتعا بالنسبة لي أكثر من شيء مفروض عليّ ".
أما عن طريق الدراسة الأكاديمية وكيف بدأ الخطوة الأولى : " في عام 1990 التقيت صدفة بالأستاذ صلحي و قال لي أننا سوف نفتتح المعهد العالي للموسيقى في ساحة الأمويين، و نصحني بأن أتقدم إليه، و هنا عدت للتدريب الجدي و بدأت بمسيرة جديدة في حياتي الموسيقية" .
بعيداً عن أوقات الفراغ، والاهتمام بالموسيقى كهواية . شقّ ميساك طريقه لدراسة الموسيقى بشكل أكاديمي، متخلّياً عن اختصاصه الجامعي"هندسة الميكانيك" في سبيل التفرّغ تماماً . عن قرار التفرّغ للموسيقى، قال مستذكراً"في بداية التسعينات، تحديداً في شهر كانون الأول تم افتتاح المعهد العالي للموسيقى، كان ذلك العام، أول عام لي في الجامعة، حيث دفعتني ميولي العلمية وتعلّقي بالرياضيات لدخول هندسة الكهرباء. قمت بدراسة الهندسة موازاةً مع الدراسة في المعهد، ورغم ميولي العلمية وحبّي للهندسة الكهربائية ، إلّا أن كفّة الميزان بدأت ترجح لصالح الموسيقى، خصوصاً بعد أن أصبح التقصير واضحاً لصالح المعهد و أصبح التعب الجسدي والنفسي بمتابعة الأمرين لا يُحتمل، فكان قراري بترك الهندسة نهائياً في سنتي الثالثة، حينها كنت في السنة الخامسة من المعهد. انصب لاحقاً التركيز على الموسيقى، لِتُتاح الفرصة لي بالإيفاد إلى ايطاليا لدراسة الاوركسترا" .
عِندما دخلنا في صلب الاختصاص الموسيقي" قيادة الاوركسترا"، سألناه كيف يصبح إنسان موسيقي قائد اوركسترا ، يقول:" يعتمد ذلك على عنصرين جوهريين، في البداية الدراسة التقنية، ثانياً الشخصية الّتي يجب أن يتحلّى بها قائد الاوركسترا والّتي يجب أن تكون قيادية بطريقة أو بأخرى، فالأوركسترا تضّم الكثير من الموسيقيين وعمل القائد يتجلّى في ضبطهم وفرض الرّأي المناسب، وإلّا حلّت الفوضى " .
أمّا في ما يخص الدراسة التقنية لقائد الأوركسترا والتدريب يستطرد ميساك : "يوجد ثلاث تدريبات: جزء تقني (التدريب على الحركات)، قراءة النوطة الموسيقية (تشكيل فكرة و مشهد عن كيفية إخراج العمل)، و التدريب مع الأوركسترا (تطبيق أول مرحلتين مع الأوركسترا) و إخراج النتيجة التي تتوقعها من الموسيقي" .
في ظل الأزمة الراهنة كان السؤال عن الصعوبات الّتي تواجه الفرقة عموماً وتواجهه منذ تولّيه قيادة الأوركسترا، سؤالاً جوهريا لا بد منه، الإجابة من ميساك كانت :"في كل مرحلة يوجد صعوبات، و بهذه الفترة بالذات خسرنا الكثير من الموسيقيين بسبب سفر و غيره،هذا الأمر خلق لنا تحدي لنكمل في صنع الموسيقى. و في الفترة التي عدت بها من البعثة، وضعت في موقف بأن عليّ قيادة و توجيه أمر لموسيقيين أكبر مني سنّاً و خبرة و كان ذلك صعباً في البداية، و لكن في النهاية حين تستطيع إقناعهم بعملك و أن يستطيعوا رؤية الهدف الذي هو مصلحة العمل و ليس ممارسة السلطة، تتلاشى الصعوبات و تزول شيئاَ فشيئاَ."
بطبيعة الحال كان للظروف تأثير على اختيار اعمال للاوركسترا " الظروف الراهنة تؤثر لا شك على اختيار الأعمال، حيث تتلاشى إمكانية تقديم معزوفة "سعيدة"، ما حاولنا فعله تقديم معزوفات تعطي الأمل للناس، لكن لا يمكننا الخروج عن الموضوع بشكل تام" .
ميساك باغبودريان تخرّج من المعهد العالي باختصاص بيانو وقيادة اوركسترا، في سؤالنا له عن إمكانية العمل مستقبلاً على إخراج "قادة" اوركسترا، وهل هناك من تخرّج بهذا الاختصاص في سوريّا ؟!
"في السنة الخامسة من الدراسة بالمعهد يوجد مادة "مبادىء قيادة أوركسترا"، و الآن يتم العمل مع مجموعة أشخاص حتى بعد تخرجهم، يحاولون السفر إلى أوربا لكسب الخبرة، منهم من ذهب ببعثات و لم يعود بعد، على أمل عودتهم للعمل معهم."
في الخوض في التفاصيل، سألناه عن عازف الكمان الأول او الكونسيرت ماستر ما هي مهمته وعلى أيأساستختاره؟
"عازف الكمان الأول و "بشكل إداري" هو ممثل للأوركسترا أي "الرئيس الموسيقي للأوركسترا" ففي الحفلات مِن الممكن لقائد الأوركسترا أن يكون موجوداً أو لا، فالكونسيرت ماستر هو بمثابة المندوب الذي ينقل أي ملاحظات أو تعليمات بين العازفين و المايسترو و ينسّق حركات العازفين تبعاً لحركاته، يجب على الكونسيرت ماستر أن يكون عازف كمان و أن يكون عازفاً بارعاً (ليس بالضرورة الأفضل) و لكن مهارة التواصل الجماعي لديه عالية (شخصية قيادية)."
بحكم دراسته التي استكملها في ايطاليا، و التجارب التي خاضها في قيادة الاوركسترا والعمل مع فرق اوركسترا عديدة، كان سؤالنا له، عن البلدان التي رأى فيها إن صح التعبير-درجة عالية من الاحتراف- وهل بالإمكان للفرقة السيمفونية الوطنية الوصول إلى مستويات متقدّمة !
وضّح ميساك الفكرة بقوله : "إذا أردنا المقارنة ما بين سنوات الحياة الموسيقية في تلك البلدان و مستوى الفرق الموجودة هناك و أن نشكل معادلة، فالدرب أمامنا طويل، الموسيقى الكلاسيكية في بلدنا بدأت منذ حوالي الستين عام، و هذا رقم هزيل .
على جانب آخر، أغلب المحافظات السّورية لا تملك معاهد موسيقية متخصّصة، كما أن الكثير من الآلات الموسيقية ما زالت مجهولة لدى الناس .
وجود فرقة موسيقية سورية لا يعني بالضرورة وصولنا إلى مستوى جيد، على سبيل المثال "البرلين فيلهارموني" من أفضل الفرق بالعالم ، وتم تأسيسها منذ حوالي 400 عام، هذا يلعب دوره، إضافة إلى منسوب ذخيرة عالي من المدارس الموسيقية والموسيقيين .
أجد أن تأهيل موسيقيين للفترة القادمة هو أولوية تعطينا خيارات وتساهم في خلق جو من التنافس الايجابي . "
ما نعاني منه هو انعدام وجود بدلاء موسيقيين ، ما نتج عنه انعدام بيئة تنافس وبالتالي ركود وعدم تجديد" .
تعقيباَ على المعهد العالي (باعتباره رافداً للفرقة السيمفونية الوطنية)، كان لابد من سؤال قائد الفرقة عن ما يُعدّه البعض مشكلة حول نسبة القبول السنوية المنخفضة في المعهد، أجابنا : " بأن ذلك الأمر شيء طبيعي، حيث يوجد منظورين: الكم و النوعية، بإمكان أي معهد تخريج أناس قادرين على عزف آلة، لكن هناك فرق عن تخريج عازفين آلة ماهرين .
ما أراه حالياً أن المعهد يخرج أكثر مِمّا يجب، كما أن نسبة القبول عالية أيضاَ.
سياسة المعهد تعتمد على التوسّع، فليس كل خرّيج يجب أن يعمل مع الفرقة السيمفونية، بعضهم ممكن أن يعمل مدرّساً موسيقياً و بعضهم منظّمي حفلات، و نحن بحاجة إلى كل أنواع العاملين بالقطّاع الموسيقي .
المشكلة الحاصلة حالياً هي عدم توفّر الموارد،يُضاف إليها عوامل عدّة كعدم وجود خبراء أجانب بسبب السفر،و مشكلة المكان و استيعاب القاعات و وقت المدرسين. كذلك عدم وجود معاهد موسيقية (باستثناء قلّة قليلة) تؤهل للدخول للمعهد العالي . في المحصلة جميع هذه العوامل لا تعطي المجال لاستيعاب أعداد أكبر، ففي الكمية الكبيرة الأثر السلبي على النوعية الجيدة الّتي يتم تخريجها " .
عن الفرقة السيمفونية الوطنية، مشاريعها المستقبلية، أحلامها، وأثر الأزمة الراهنة في سوريّا على الحفلات، و الإقبال عليها، أخبرنا ميساك : "حاليا لا نتلق الكثير من الدعوات (لأسباب سياسية)، تبقى الفكرة الّتي نجهد في إيصالها هي محاولة إقناع الناس بأن يسمعوا موسيقى لفرقة قادمة من سوريا، عدم خلط الأمور وتحييد السياسة . الموسيقى لغة عالمية و وسيلة اتصال غاية في الرّقي لإيصال رسالة إنسانية .
حالياً يتم العمل على التحضير للمشاركة بمهرجان الموسيقى في الجزائر في أيلول القادم".
أما فيما يخص الإقبال على الحفلات، وما قد يزيد في عوامل جذب الجمهور، فوضّح ميساك باغبودريان الأمر : " الجمهور صنفان، فهناك أشخاص يحضرون الحفلات لأنها تريد أن تستمع إلى الموسيقى، وهناك الصنف من الأشخاص الّتي تحضر الفرقة لكي تبرهن على أنّها حية، و لكن الإقبال جيد، و نحاول أن نجعل الحفلات متعلقة بموضوع معين أو طبيعة معينة، فحين يحضروا الهدف ليس ادخالهم بجو من الكآبة و لكن أن يعيشوا الواقع مع جرعة أمل" .
في محاولة للتعريج على عالم ميساك باغبودريان، سألناه عن ميزة" الأذن المطلقة" الّتي يتمتع بها، أشار إلى أنها موهبة في الدرجة الأولى لكن الموهبة تشكل 5% فقط أما الباقي فهو عمل ومتابعة وتنمية مستمرة لكي لا نفقد حسّها وسرّ تميّزها .
أما عن تجاربه مع التأليف فالتأليف في صلب اختصاصه كقائد اوركسترا، وهو قام بدراسة التأليف الكلاسيكي والمعاصر، إلّا أنه لم يجد نفسه كمؤلّف موسيقي ففضل البقاء في اختصاصه .
حدّثنا عن معزوفاته، عصور الموسيقى، والعازفين المفضّلين لديه، فكان الجواب أن برامز من المفضّلين لديه، يُسعد بسماعه دوماً، أما عن العصور الموسيقية المفضّلة :" لكل عصر ميّزاته وعازفيه المميزين، لكن أحب تأديه موتسارت أو بيتهوفن أو برامز أو سترافنسكي . ومن الكندكترز، يعجبني توسكانيني، وكلايبر " .
في نهاية اللقاء، سألناه عن رأيه بمبادرة الباحثون السوريّون، أخبرنا أن هكذا أفكار جميلة تثير اهتمامه " يعجبني حين أرى شباباً يعملون لأجل هدف، ليكوّنوا أرشيفاً خاصاً، إنه شيء جميل حقاً" .