السنوات الأولى من حياة الطفل مفتاح الصحة مدى الحياة

لا شك في أنَّ السنوات الأولى من حياة الطفل تتميز بالنمو السريع والتطوُّر الملحوظ مقارنةً بالمراحل اللاحقة من عمره، ومن اللافت دور هذه المراحل الأولى وأهميتها لتحقيق تطوُّر صحي وسليم؛ إذ من الممكن أن تكون أولُ ثماني سنوات أساسًا تُبنَى عليه مهارات التعلُّم والنجاحات والصحة في المستقبل (1). 

يُبنَى الدماغ تدريجيًّا مع الوقت؛ إذ تتشكل هندسته الأساسية عن طريق عملية تبدأ قبل الولادة وتستمر في الكبر. ينشأ في السنوات القليلة الأولى من الحياة أكثرُ من مليون اتصال عصبيّ في الثانية، وبعد ذلك تُخفَّض هذه الاتصالات بصقلها وتشذيبها وفق ترتيب محدد لتكوين دارات عصبية أكثر فعاليّة. بداية؛ تتطور حاستا البصر والسمع، وتليهما المهارات اللغوية الباكرة، ومن ثم الوظائف الإدراكية، لتُبنى عليها دارات أكثر تعقيدًا لاحقًا، وبذلك تُعدُّ المراحل الأولى الأكثر نشاطًا من حيث تشكيل اتصالات عصبية حديثة تؤمن أساسًا للدارات الناشئة لاحقًا؛ فإما أن يكون هذا الأساس ضعيفًا وإمّا قويًّا. 

إضافة إلى أن قدرة الدماغ على التغيُّر تتناقص مع تقدُّم العمر؛ فالدماغ أكثر مرونةً في مراحل الحياة الأولى، ويتأقلم مع مجال واسع من المتغيرات البيئية، ويُصبح مع الكبر أكثر تخصصًا وأقل قدرةً على إعادة تنظيم نفسه تلاؤمًا مع التحديات الجديدة. على سبيل المثال؛ مع إتمام السنة الأولى من العمر؛ تصبح أقسامُ الدماغ القادرة على تفريق الأصوات متخصصةً بتمييز اللغة التي يسمعها الطفل، ويبدأ الدماغ في الوقت ذاته بفقدان القدرة على تمييز الأصوات الخاصة باللغات الأخرى، وعلى الرغم من بقاء القدرة على تعلُّم لغات أخرى، لكنها تزداد صعوبةً مع مرور الزمن؛ فمرونة الدماغ في المراحل الأولى تعني أن التأثير في هندسته يكون أكثر فعاليةً منها عند الكبر. 

وقد تبين أن القدرات العاطفية والاجتماعية والإدراكية تبقى مرتبطة بعضها مع بعض في أثناء الحياة؛ فالصحة النفسية والجسدية والكفاءة الاجتماعية في السنوات الأولى تشكّل حجر بناء للقدرات الإدراكية وشرطًا أساسيًّا لنجاح الفرد في المدرسة والعمل والمجتمع لاحقًا، ومنه وجد العلماء أن الشدة المزمنة المستمرة في الطفولة الباكرة (الناتجة عن الفقر الشديد، أو سوء المعاملة المتكرر، أو اكتئاب الأم الشديد) قد يكون لها تأثير ضار بشدة في الدماغ بسبب تغييرها بنيةَ الدماغ الآخذ في التطور (2). 

وأخيرًا؛ نختم بالتأكيد بأهمية السنوات الأولى من عمر الطفل ودورها في رسم مسار مراحل حياته اللاحقة؛ إذ يولد الأطفال جاهزين للتعلُّم؛ فيتطور قرابة 90% من دماغهم في السنوات الخمس الأولى، ويتأثر ذلك كثيرًا بما يحدث حولهم في بيئتهم، وبتفاعلاتهم مع الأشخاص المحيطين بهم، وبالتجارب التي يتعرضون لها (3)، وبذلك يكون للأهل ولمقدمي الرعاية دورٌ مهمٌّ في تحقيق نمو صحي لدماغ الأطفال (1)، وهذا ما سنتطرق إليه في مقالنا المقبل.

المصادر: