البيولوجيا والتطوّر > التطور
في البيولوجيا أيضاً: "المُنتَصِرون يَكتبوَن التّاريخ"
ينكبّ العلماء عادةً على دراسةِ التّاريخ البيولوجي، ويحاولونَ فهمَ ما يوجدُ اليوم من كائناتٍ حيّة تشكّل الحاضرَ من حولنا، لأنهم يرَونَ في تراكمِ هذه المعارف والحقائق ما يسمحُ لهم ببناء مفهومٍ واضح لسير عمليّة التطور.
ولكن الأمر ليس عادياً ويسيراً كما يعتقدُ بعضنا!
إليك التحديات التي واجهت كبارَ الباحثين في تحليل أهم المناهج المتّبعة في الدراسات التطورية.
بدايةً لا بدّ لنا من الإشارة إلى مفهوم الأشجار التطوّريّة phylogenetic trees والتي تعرّف بأنها الشجرة التي تُظهر العلاقات التطورية بين مختلف الكائنات الحية التي يُعتقد أنها تملك أصلاً مُشتركاً. وعلى الرغم من كون هذه المخططات الشجرية وسيلة مهمة لدراسة التطور منذ القرن التاسع عشر؛ فإنّ إشارات الاستفهام بدأت تدور حولها، بعد أن كانت مرتكزاً لدراسات التّطور وشاع استخدامها طويلاً لتقدير معدّل ظهور أنواع جديدة نسبةً إلى انقراض الأنواع الحالية.
ولكن؛ أين جذع الشجرة؟!
لتقريب المفهوم، نستطيع أن نتأمل وجود 6600 نوعٍ من الطّيور المغرّدة في أنحاء العالم والتي تشكّل أكثر من نصف مجموع الطيور برمّتها، مما يدفعنا إلى القول إنّ هذه الطيور تملك معدل انتواع عالٍ يفوق غيرها من الطيور. ولكن كيف نستبعد تفسيراً آخرَ لما سبق وهو أنّ معدّل انقراضها منخفض على نحوٍ ملحوظ.
(الانتواع: العملية التطورية التي تتواسط ظهور كائنات حية جديدة وتُشير في مضمونها إلى ما يعرف بـ "التفرع الحيوي").
فقد واجه العالمان (Stilianos Louca) و(Matthew W.Pennell) من جامعة نيويورك الأمريكية، مشقّةً كبيرةً لتقدير معدلاتٍ قديمة للانتواع والانقراض والتي تمثّل معدلات ظهور أنواع جديدة نسبةً إلى انقراض أنواع حالية على التوالي (1,3).
واعتاد العلماء أن يقدّروا معدّلات الانتواع والانقراض بالاعتماد على المخططات الشجريّة التي توصّف أنماط النَّسَب لمجموعة من الأنواع المعاصرة، نظراً إلى ندرة الأحافير أو البقايا العائدة إلى معظم الأنواع.
ومن أجل دراسة تطوّر سلالات ما، كان يسهل إنشاء ما يُعرف بمخطط "النّسَب عبر الزمن"، الذي يُسجّل عدد السلالات التراكمي وصولاً إلى النقطة الزمنية في الشجرة التي ستخلّف نوعاً أو أكثر من الأنواع السلفية. يُعطى ميل المنحني الموافق لهذه المخططات بـ λ "معدل الانتواع الكلي"، والذي يكافئ الفرق بين معدّل الانتواع (b) ( الولادة birth) ومعدّل الانقراض (الموت d) (death) ويُعبَّر عما سبق بالمعادلة λ = b – d.
وعلى الرغم من وضوح ما سبق؛ فإنَّ هناك صعوبة في حساب كلٍّ من معدّل الولادة والموت، لأنّ كل ما لدينا هو عدد الأنواع التي نجت واستمرّت إلى الحاضر، لذا فإنّ أيّ زوجٍ من b وd يعطي القيمة ذاتها لـ λ سينتج عنه منحنى "النّسَب عبر الزمن" ذاته وهناك عددٌ لا نهائي من هذه الأزواج (1,3).
ما الثغرة التي اتضحت في دراساتنا التطورية إلى حد الآن؟
هنا أوضح كلٌّ من بينيل ولوكا أننا لسنا عاجزين عن تقدير المُعدّلَين السابقين فقط، بل هناك رقم غير معيّن من المجموعات المختلفة التابعة لكلٍّ من هذين المتغيرين وبالكفاءة ذاتها لتفسير أية ظاهرة مطروحة.
في الحقيقة، تبين أنّه في الحالات البسيطة لحساب b وd قد نستغلّ ميزات المنحني لتقدير معدّل الانقراض ومنه نستنتج معدل الانتواع بالطرح. ولنتمكن من فعل ما سبق علينا الافتراض أنّ المعدلَين ثابتان في خلال النطاق الزمني للشجرة التطوريّة. ولكن؛ يكاد يكون من المؤكد أنهما يختلفان عبر الزمن بين الفروع المختلفة (الأنساب) للسلالة.
هنا تدخّل بينيل ولوكا بسبب أعمالهم الحديثة والمعقّدة رياضياً التي نصّت على عدم إمكانيّة تقدير معدلات الانقراض والانتواع المتغيرة بالنسبة إلى الزمن (1,3).
ما القيمة المعرفية التي يضيفها هذا الاستنتاج إلى التطوريين؟!
عمل الباحثان على تعريف وجود منحنى "النسَب عبر الزمن" الشّجري المحدد: مجموعة من المعادلات التفاضلية (معادلات تصف معدل التغيّر) والتي تحدد عدد السلالات في الشجرة في أية نقطة زمنية.
النتيجة المفتاحية لعمل العالمين كانت: هناك عدد معين من المجموعات البديلة لمعدّلات (انتواع - انقراض) المتغيرة عبر الزمن والتي تنتج العدد ذاته من السلالات في أي زمن معطى كما يفعل منحنى "النسب عبر الزمن" المحدد (1,3).
ستكون استنتاجات كلٍّ من بينيل ولوكا مخيّبة لآمال علماء التطور الذين تطلّعوا لإيجاد رابط بين مستويات الانقراض والانتواع الماضية من جهة والتغير المناخي وغيره من الأحداث البيئية من جهة أخرى، أو لمن يرغب في اختبار الخصائص (كالحمية أو نظام التزاوج أو امتداد الجيل الواحد) لكل نوع والتي قد تتوقع معدلات الانقراض والانتواع (1-3).
مع العلم أن القيود التي تناولها بينيل ولوكا لتقدير معدلات الانقراض والانتواع لا تتلاشى مع تزايد حجم الشجرة التطورية. ولا تقدم باقي الخصائص العامة للأشجار التطورية كثيراً من المساعدة، على سبيل المثال، سيكون حساب معدل الانتواع مباشراً في حال لم تتعرض أيّة مجموعة من الأنواع لأي انقراض. ولكن هذا أمر نادر الحدوث ولم تسبق مصادفته.
"تبنى الفرضيات حول الجزئيات التي نود نحن أن نقدّرها"..
قد يساعد وجود كثيرٍ من الأحافير -لمّا كانت تقدم الأدلة اللازمة- في تقدير معدّلات الانقراض إلا أنها نادراً ما توجد. ويمكننا وضع افتراضاتٍ عن اختلاف كلٍّ من الانقراض والانتواع فيما بينها عبر الزمن أو مع عدد الأنواع، ولكننا نضع هذه الفرضيات للأمور التي نود أن نقدّرها فقط.
يقدّم الباحثان وسط هذه المجزرة المعرفية تعزيةً داعمةً، من خلال إبدائهم لإمكانيّة تقدير متغاير أطلقوا عليه معدّل الانتواع المسحوب أو λp والذي يقيس معدل التغير (ميل المنحني) لمخطط "النسب عبر الزمن" المحدد. ويمكن مقارنة هذا المتغير بين الأنواع أو في أزمنة مختلفة ويمكن أن يكون نافعاً لفهم العملية التي أدت إلى وجود الأنواع الحية اليوم ولو أنها لا تقدم بالضرورة المعلومات المتعلقة بالأنواع التي لم تنجُ. وتمثّل هذه الناحية بالتحديد (الأنواع التي انقرضت) الدرسَ الأعمق لعمل بينيل ولوكا (1,3).
إذاً؛ وبوصفها نتيجةً في غاية الأهمية:
لا بد لجميع علماء التطور الذين يدرسون الانتواع والانقراض أو الذين يحاولون هيكلة تاريخ الأسلاف القديمة أن يحذروا من فكرة مفصلية؛ إنّ العمليات التطورية التي يدرسونها تعود للأنواع التي ستنجو وتخلّف أجيالاً منها في الحاضر. ولا يمكننا معرفة ما جرى لتلك التي انقرضت تماماً. إنها النسخة البيولوجية للعرف السائد الذي ينصّ "المنتصرون يكتبون التاريخ".
والمفارقة الأكبر لهذا المأزق أنّ فكرة تشارلز دارون المتعلقة ببقاء الأقوى/ الأصلح والتي نحاول فهمها جيداً، تنضوي في طبيعتها على هروبٍ وتملّص من المكونات المفتاحيّة اللازمة لدراستها (3).
المصادر:
- Louca S, Pennell M. Extant timetrees are consistent with a myriad of diversification histories. Nature [Internet]. 2020 [cited 17 October 2020];580(7804):502-505. هنا
- Catley K, Novick L. Seeing the Wood for the Trees: An Analysis of Evolutionary Diagrams in Biology Textbooks. BioScience [Internet]. 2008 [cited 17 October 2020];58(10):976-987. هنا
- Pagel M. Evolutionary trees can’t reveal speciation and extinction rates. Nature [Internet]. 2020 [cited 19 October 2020];580(7804):461-462. هنا