البحث العلمي والمنهجية العلمية > البحث العلمي
مصير الأبحاث ذات الاستبانة في زمن البيانات الضخمة
هل انتهى زمن اعتماد الباحثين على الاستبانات في أبحاثهم (survey research)؟
قبل الإجابة؛ لا بُد في هذا السياق من ذكر ثلاث نقاط مهمة تغيرت على مدى الزمن؛ أوُّلها: زيادة البيانات الضخمة (Big Data) التي تتيح جمع بيانات عن كل ما يفعله البشر، مما قد يثير السؤال عن الحاجة لإجراء استبانة تشمل مجموعة صغيرة من الناس. وثانيها: زيادة المنصات التفاعلية لدى شركات مثل Google وAmazon وغيرها؛ التي أمَّنت جمع استجابات عدد كبير من الناس بطريقة بسيطة منخفضة التكلفة وقليلة الوقت. وثالثها: ظهور أدوات الاستبانة ذات القابلية للتعلُّم ذاتيَّاً (DIY)؛ التي قد تسبِّب اعتقاد بعض الناس عدمَ حاجتهم لخبراء في الاستبانات بعد الآن، ويرون أن جميع الأشخاص قادرين على إجراء استباناتِهم بأنفسهم (1).
تُعرَّف البيانات الكبيرة في أحد مفاهيمها على أنها مجموعات من البيانات ذات حجم يفوق قدرة برمجيات قواعد البيانات التقليدية على الالتقاط والتخزين والإدارة والتحليل (2). وتُعدُّ حصيلةً ثانوية للنشاط الفردي اليومي، وقد ظهرت نتيجة أتمتة جميع المعاملات الاقتصادية وقسم كبير من التفاعلات الشخصية؛ إذ يُجرى ويُسجَّل كل اتصال أو دفعة مالية أو رحلة بواسطة أنظمة حاسوبية، وتكون النتيجة مجموعات من البيانات الكبيرة المُحدَّثة باستمرار وعلى نحو متكرر، وتوفر رصداً وأعداداً من المتغيرات بحجم يفوق ما اعتاده الباحثون في الاستبانات (3).
ويمكن للعينات ذات الحجوم الهائلة التي تقدمها البيانات الكبيرة أن تؤمن مستوى من الدقة والانضباط يتجاوز ما يمكن أن تقدمه الاستبانات بشوط بعيد (3)، إلا أن ذلك لا يعني ضمان البيانات الكبيرة للجودة العالية والخلو من الأخطاء. ويُحسَب لها أنها تسمح بعينات ذات حجم أكبر وتحليل أدق، وأنها قادرة على تفادي بعض العراقيل والانحيازات أيضاً، لكنَّها تترافق مع بعض التحديات؛ إذ يصعب على الباحثين اختيار البيانات التي ستُجمَع أو كيفية جمعها، وهي مرهونة بقضايا الملكية وتوفُّر الوصول إليها (4). ومن جهة أخرى؛ فقد يُضطر الباحث المعتمد على البيانات الكبيرة إلى ضمِّ بيانات خارجية تدرس متغيرات لم تكن موجودة في مجموعة البيانات، فيُصبح من الضرورة الاستعانة بالاستبانة كمعيار والعمل بها على التوازي (3).
وقد ينسى الباحثون -أحياناً- عند الاعتماد على الاستبانات في أبحاثهم أنها أداة من الأدوات المتوفرة للإجابة عن الأسئلة البحثية، ونجد مثالاً على ذلك عند النظر إلى مستوى الدقة التي تسعى بعض الاستبانات إلى تحقيقها عندما تطرح أسئلة سلوكية؛ فعلى الرغم من التقدُّم الكبير الذي طرأ على تصميم الاستبانات في الخمسين سنة الماضية؛ تبقى الأسئلة السلوكية هي الأصعب لأنها تعتمد على ذاكرة الناس (4).
ويبقى الرأي الأكثر رواجاً بين الباحثين أنَّه يمكن استخدام الاستبانات والبيانات الكبيرة معاً؛ بل ويجب ذلك؛ للاستفادة منهما حتى الحد الأقصى (4). وخَلُصَ تقرير نُشِر لصالح الجمعية الأمريكية لأبحاث الرأي العام (AAPOR) إلى عدِّ البيانات الكبيرة مكمِّلة لمصادر البيانات وليست منافِسة لها، فالمنهجَين مختلفَين ولكن يجب الاستفادة من منافع هذا الاختلاف؛ إذ أنّ وظيفة البحث هي الإجابة عن الأسئلة؛ وتكمن إحدى طرائق الإجابة عن هذه الأسئلة بالاستفادة من المعلومات المتوفرة جميعها، ويتيح توفُّر البيانات الكبيرة في خدمة البحث طريقة جديدة لمقاربة الأسئلة القديمة، ويعطي الفرصة لطرح أسئلة جديدة لم تكن في المتناوَل سابقاً.
عموماً؛ إنّ النتائج المستخرَجة والمبنية على البيانات الكبيرة ستولِّد أسئلةً إضافية حتماً، وقد يكون من الأفضل طرح بعض هذه الأسئلة الإضافية باستخدام طرائق البحث الاستقصائي التقليدي (5).
وبمقاربة الحالة المثالية التي يجب أن تُبنى على نقاط قوة كل طريقة؛ يمكن للبيانات الكبيرة أن تقيس السلوك والإجابة عن السؤال (ماذا؟)، بينما يمكن للاستبانات قياس المواقف والآراء والإجابة عن السؤال (لماذا؟) (4)، وهكذا يرى العديد من المراقبين الفرص المهمة التي يتيحها استخدام الاستبانات والبيانات الكبيرة معاً وعلى نحوٍ متكامل؛ فالبيانات الكبيرة تُغني سياق الإحصاءات؛ في حين تساعد الاستبانات في فهم الأنماط المكتشَفة من البيانات الكبيرة وإيجاد معنى لها (6).
المصادر: