التاريخ وعلم الآثار > التراث اللامادي
«فنُّ الشارع» والتراث اللامادي في «حارة التيامنة»
شهدت المدن السورية مرور العديد من الثقافات التي بَنَتْ هُويَّتها والإرث الثقافي لقاطنيها وغيَّرت وطوَّرت فيها، وقد بُنيَت الحضارة السورية على التنوع والاختلاف (1). وطبقًا لما تقوله "جولييت هيس" عن الثقافة: "تندمج الثقافات موسيقيًا، وتتغيَّر الهُويَّة وتتطور من خلال التجارب و التفاعل مع الآخر في الفراغات المتنوعة جدًا" (2).
فالتنوع الثقافي يطوِّر الهُويَّة ويبنيها، ولكنه لا يلقى القبول ويحقق الهدف المطلوب أحيانًا. ويستقبل بعضهم النِّتاج الإبداعي المختلف على أنه غير متجانسٍ مع المحيط أو هجين؛ ولا سيما في الأماكن ذات الخصوصية (التاريخية أو الأثرية أو الدينية،...) كما حدث مؤخرًا في مدينة دمشق القديمة من خلال مبادرةٍ طغى التنوُّع الفني على نِتاجها من لوحاتٍ ومنحوتات، وهي مبادرةُ «فنِّ الطريق» في «حي التيامنة» ذي النسيج التاريخي2 (3). جذبت المبادرة الفنية الاهتمامَ إثرَ انتشار صورِ نِتاجها الفني ورسومات فنانيها على مواقع التواصل الاجتماعي. تهدف المبادرة إلى تحقيق مشاركةٍ مجتمعيةٍ من فناني الحي وساكنيه والمسؤولين عنه لإحياء الفراغات العامة العتيقة والمُهمَلة في «حارة التيامنة».
يُعدُّ دور المبادرات التطوعية وإشراك المجتمعات أساسيًا للتعافي وإعادة التماسك الاجتماعي ما بعد الحروب والسلام (4،5) وعاملًا مهمًا في تشكيل الفراغات العامة المرغوبة والمقبولة اجتماعياً (6).
نجحت تجاربُ عالميةٌ في الإشراك المجتمعي في تأهيل الفراغات ليشكِّل دعمًا للتعافي وإعادة التماسك الاجتماعي ما بعد الحروب والسلام كما في تجربة أوكرانيا بعد الحرب (4).
صور من النِّتاج الفني من الرسومات الجدارية أو غرافتي لمبادرة «فن الطريق»
على الرغم من أهمية مثل هذه المبادرة؛ لم يدرك جميع المتابعين هدفَ «مبادرة فنِّ الطريق»، ولم تكن رسالتها منعكسةً بوضوحٍ على الجدران العتيقة لـ«حي التيامنة»، فرأى بعضهم الرسوماتِ هجينةً غريبةً ورفضها، لذا نناقش في الفقرة الآتية الفنَّ العام التشاركي، وكيف نحققه ونساهم في تطوير المنطقة.
أولًا: الفن التشاركي والفن في الفراغات العامة:
تشير الدراسات أن الفن يلعب دورًا لا يُقدَّرُ بثمنٍ في عملية بناء المجتمع. لا يقتصر الأمر على إنشاء الأماكن العامة وتجميلها؛ بل إنه يعبِّر عن الإحساس بتاريخ الحيِّ وثقافته وهُويَّته ويدعمه، يساعد في دفع الحيوية الاقتصادية. وازداد الاهتمام مؤخرًا بالفن العام التشاركي حين يلعب الجمهور دورًا نشطًا بدلًا من أن يكون مشاهدًا. تتخذ الأعمال الفنية في الفراغات العامة أيَّ شكلٍ أو تكوين. ويُعدُّ التجميل والإثراء والاستمتاع من الفوائد القيمة للفن العام، ولكن غالبًا ما يُصمَّم للارتقاء بالتاريخ الثقافي والمساعدة في معالجة القضايا الحَضَرية ودعم الحيوية الاقتصادية وبناء التماسك الاجتماعي.
تتجه أكثر وِكالات الفن في العالم إلى الأساليب التشاركية التي تجعل الفنَّ العام أكثر انعكاسًا للمجتمعات التي يقع فيها. ويُطلَب من الفنانين إنشاءَ أعمالٍ تستجيب لثقافة منطقةٍ معينةٍ وتاريخها وسكانها بدلًا من اقتراح أعمالٍ فنيةٍ يمكن إسقاطها في أيِّ حديقةٍ أو حي.
يسمح الفنُّ العام بتنوُّع المشاركة المجتمعية من خلال المشاركة في التخطيط والاختيار والإبداع. ويعكس الفن العام التشاركي هُويَّة الحي وثقافته وتاريخه بصورةٍ أفضل . إذ تبني الخبرة المشتركة والتفاعل مع نتاج الفن العام تماسكَ المجتمع.
تعمل المشاركة على تقوية الشعور بالمُلكية؛ وبالتالي تثبيطِ التخريب أو الكتابة على الجدران مع دعم التجميل وسلامة الموقع والتنمية الاقتصادية للمنطقة. وتزيد المشاركة المجتمعية من فرص دعم الناس لبرامج الفن العام في أوقات الميزانيات الضيقة (نقص الموارد والتمويل الكافي لتنفيذ المشاريع) كما هي الحال في سورية (6).
وبالتالي؛ لا بدَّ من أن تحقق مبادرات فنِّ الشارع الشروطَ السابقة لتساهم في تنمية المنطقة، وإشراك المجتمع في دعمها ونجاحها. ونختصر المنهجية فيما يأتي:
1- الاستجابة لثقافة المنطقة وتاريخها وسكانها من خلال التخطيط التشاركي (أي إبداع أعمالٍ فنيةٍ تستجيب لثقافة المنطقة، ولا يمكن إسقاطها في أيِّ مكانٍ آخر).
2- مشاركة السكان وأهل المنطقة في الاختيار.
3- المشاركة في الإبداع (تبني تماسك المجتمع وتمنع التخريب).
فهل تحقق مبادرة «فن الطريق» هذه المعايير لتصل إلى هدفها في إشراك المجتمع. نعتمد في المقالة على دراسة الوضع الراهن للمنطقة وتحليلها، ودراسة آراء المشاركين في المبادرة ورأي خبيرٍ للوصول إلى إجابةٍ عن هذا السؤال.
ثانيًا: دراسة الوضع الراهن لـ«حارة التيامنة»:
لم يقتصر النقاش الاجتماعي على رسومات مبادرة «فن الطريق» ونِتاجها الفني؛ وإنما تعدَّاه إلى أهمية الحي؛ فافترض بعض المتابعين أن الحي جزءٌ من حدود المدينة المسجلة على قائمة التراث العالمي أو على قائمة التراث الوطني. يظهر هذا الافتراض لأن الحي جزءٌ من منطقة الميدان المعروفة لدى المجتمع السوري بأهميتها التاريخية. يحلل المقال بعض الحقائق في هذه الافتراضات انطلاقًا من أن أهمية النسيج التاريخي تكمن في تجربته المُعاشَة والقيم الجمالية والتاريخية، وارتباطه بهُويَّة سكان دمشق القديمة (3).
- «حي التيامنة» ضمن المخطط المتكامل للحفاظ والتنمية:
مخطط رقم /1/: الجمهورية العربية السورية، مخطط حدود مدينة دمشق القديمة.
Syria Arab Republic, Boundary of the old city of Damascus
مخطط رقم /2/: حدود منطقة الدراسة التي تمت في إطار المخطط المتكامل للحفاظ والتنمية في مدينة دمشق القديمة، يظهر «حارة التيامنة» باللون الأزرق.
- النسيج العمراني لـ«حي التيامنة»:
وتقع «منطقة ميدان تحتاني» جنوب سور دمشق القديمة مباشرة، وتنتهي عند «باب مصلى». وبدأ البناء الفعلي للمنطقة -في الفترة المملوكية (1295 – 1516)- ببناء ضواحٍ سكنيةٍ عدة؛ ومنها «السويقة» التي تحولت فيما بعد لسوقٍ تجاريٍّ مركزيٍّ تتوزع على جانبيه: (الخانات، والمساجد، والمدارس، والحمامات العامة، والمدافن، والحارات السكنية). «حي التيامنة» موثَّقٌ ضمن التقسيمات العقارية أو الكادسترائيَّة لمدينة دمشق في هذه المنطقة، وتغلب الوظيفة السكنية على المنطقة بحسب مخطط استعمالات المباني، وتتراوح الارتفاعات بين طابقٍ وطابقين مع بعض المباني الحديثة بارتفاع (4 - 5) طوابقَ (2).
منطقة الميدان، حيث يظهر النسيج القديم بمعظمه لـ«حي التيامنة».
خريطة الاستعمالات؛ ويظهر «حي التيامنة» ضمن الحدود الزرقاء.
وتجدر الإشارة إلى كون توصيات (الإيكوموس: المجلس الدولي للآثار والمواقع) ضمن وثائق اليونيسكو لعام 2011 (7) تشدِّد على أهمية التوسُّع في منطقة الحماية لتحقيق التواصل ضمن النسيج التاريخي ما بين الشرائح التاريخية والأبينة التاريخية المسجَّلة. ويقع «حي التيامنة» في منطقةٍ متوسطةٍ بين منطقة الحماية وأحد الأبنية المسجَّلة في «منطقة ميدان تحتاني» التي نلحظها في المخطط رقم /1/ (7،3)، أي تنطبق عليه توصية (الإيكوموس).
منطقة حماية دمشق القديمة حسب نتائج عمل لجنة القرار الوزاري رقم /582/ آ-2009.
بناءً على المناقشة السابقة؛ نجد أن «حي التيامنة» ذو نسيجٍ عتيقٍ وقيمةٍ تاريخيةٍ وجماليةٍ مرتبطةٍ بتراث المنطقة، ذلك أن تاريخ بنائها يعود للعهد المملوكي؛ أي وفقًا للمعايير التي تضعها اليونيسكو بوصفها شروطًا للتسجيل على قائمة التراث العالمي، نجد أنه ينطبق على الحي المعيارُ "دليلٌ متفرِّدٌ أو استثنائيٌّ على حضارةٍ استمرت فترةً من الزمن وما زالت حيَّةً أو اندثرت"، والمعيار متحققٌ في هذا النسيج (8) نظريًا، ولكن لا تكفي الدراسات التاريخية وتحقق هذا المعيار لتسجيل المنطقة على لائحة التراث؛ وإنما نحتاج إلى دراسةٍ معماريةٍ وأثريةٍ للوضع الراهن غير متوفرةٍ حاليًا.
بعد توضيح أهمية «حي التيامنة»؛ نناقش في هذا الجزء من المقالة بعض تجارب «فن الشارع» في الفراغات العامة، وحالة مبادرة «فن الطريق»، وهل تحققت أهدافها من خلال النِّتاج الفني على جدران هذا الحي التاريخي؟
ثالثًا: «فن الشارع» عالميًا:
استُخدِم «فن الشارع» بطريقة لوحاتٍ جداريةٍ لإحياء بعض مواقع التراث العالمي كما في مدينة (جورج تاون، بنانغ -Georgetown, Penang)، وتظهر الدراسات أن الجداريات تحولت لتراثٍ ماديٍّ للمدينة، وخاصةً تلك المرتبطة بتراثها اللامادي3، ونورد بعض الأمثلة (10،9).
- حالة مدينة (جورج تاون) في ماليزيا:
أراد مخططو المدينة أن يروُوا قصة (جورج تاون) بطريقةٍ مرئيةٍ ومُتقنَة. قرروا استخدام المدينة أكملها وكأنها لوحةٌ لرواية هذه القصة. في عام 2012؛ دعوا "إرنست زاكارفيتش - Ernest Zacharevic" بوصفه جزءًا من مشروع (مرايا جورج تاون - Mirrors George Town) لسرد قصة التعددية الثقافية والتنوع بين سكان (جورج تاون)، وانضم فنانون آخرون للمشروع فيما بعد. استُخدِمَت جدارياتٌ كبيرةٌ وبعض المعروضات المُبتكرَة باستخدام وسائطَ مختلطةٍ لإخبار قصة ثقافة (جورج تاون). بعض اللوحات الجدارية والمعارض مشهورةٌ جدًا لدرجة أن الناس يزورون (جورج تاون) فقط لرؤيتها والتقاط الصور (11).
الصورة الأولى: يبدو الطفلان في لوحة «فن الشارع» يتوقان إلى كعكة الخبز التقليدية (باو) في ماليزيا.
(أريد باو – I want Pau)
الصورة الثانية: تصوِّر الجدارية صيادًا عجوزًا متجعدًا يصلح شِباكًا، الجدارية مرسومةٌ على جدارٍ جانبيٍ لأحد المتاجر التي كانت موجودةً قبل الحرب، ويبلغ ارتفاعها 7 أمتارٍ وطولها 13 مترًا.
شباك إصلاح الصيادين.
الصورة الثالثة: المجتمع الهندي هو جزءٌ لا يتجزأ من (بينانغ) في ماليزيا، وتُظهر هذه اللوحة الجدارية رجلًا هنديًا عجوزًا يجدِّف بقارب.
القارب.
الفن بوصفه ذكرًى شخصيةً وانعكاسًا لوجهة نظرٍ إبداعيةٍ فردية:
أشهر جداريات «فن الشارع» في مدينة (جورج تاون) تلك التي تظهر في الصورة الآتية؛ فالدراجة القديمة أمام المنزل واحدةٌ من أشهر معروضات "إرنست زاكارفيتش". على الحائط خلف الدراجة؛ رسْم جداريةٍ لطفلين: تركب الفتاة الدراجة وتأخذ شقيقها الأصغر إلى ملعبٍ أو إلى منزلهم، أو ربما مكانٍ خاصٍّ آخر يعرفه هذان الطفلان فقط. بغض النظر عن المكان؛ يبدو أنهما يستمتعان كثيرًا في أثناء ركوب هذه الدراجة المتوقفة خارج منزلٍ قديم. وفقًا لـ"إرنست"؛ فإن هذا الفن مستوحًى من شقيقين التقى بهما في أثناء عمله في (جورج تاون)، لذا فهو من وجهة نظره أقرب ما يكون إلى الواقع (11).
أطفالٌ صغارٌ على دراجة.
الأخ والأخت على أرجوحة.
- أمثلةٌ لـ«فن الشارع» ورسوماتٌ مرتبطةٌ بالتراث اللامادي للمنطقة:
تظهر في الصورة الآتية جداريةٌ من مدينة لشبونة التاريخية في البرتغال، رُسِمَت على جدار أحد الأزقة في حي (الفاما (الحمة)) العربي في المدينة. الصورة من أرشيف الأستاذة "هلا قصقص4"، وفي وصفها للجدارية تجد أنها ((مرتبطةٌ بتاريخ مدينة لشبونة وتراثها مع استخدام عناصرَ زخرفيةٍ بتأثيرٍ متوسطي)) (12).
«فن الشارع» في مدينة لشبونة التاريخية.
تجربة فنيةٌ من مدينة دمشق- سوريا:
توضح الصورة الأخرى تجربةً فنيةً على درجٍ في منطقة المهاجرين في مدينة دمشق. استُخدِم فيها تراث مدينة دمشقَ في تصميم الزخارف، إذ شرح صاحب الفكرة ومصممها أنه استوحى التصميم من نقشٍ في قصر العظم في مدينة دمشق، وهي تعبِّر حسب رأيه عن هُويَّة دمشقَ البصرية، أما النقشات الأخرى الموزَّعَة على طول الدرج؛ فتستخدم عادةً في الأقمشة والمنسوجات بصورةٍ عامةٍ (13).
درج الأمل في المهاجرين، دمشق، زخارفُ من التراث الثقافي لدمشق.
رابعًا: تجربة «فن الطريق»:
كانت رؤية الفنان الفردية في تجربة «فن الطريق» هي المنهجية المتبعة في التعبير الفني. وبناءً على المقابلات التي أجراها الفنانون والمسؤولون عن المبادرة؛ لم يُلحَظ أي تخطيطٍ مُسبَقٍ لما سيُرسَم ليعطي فراغًا منسجمًا. طغى الرسم العفوي على اللوحات مما قدَّم فراغًا عامًا (الفراغ الذي رسم على جدرانه الفنانون) شديد التنوُّع.
- نورد فيما يأتي مثالين من النِّتاج الفني للمبادرة:
صورة لأحد رسومات مبادرة «فن الطريق».
المثال الثاني:
تظهَر لوحةٌ أخرى من المبادرة في الصورة الآتية. رسمها المعماري والخطاط "حازم كرد علي". تهدف اللوحة إلى إظهار أهمية الخط العربي والإمكانية الفنية والتشكيلية المتميزة التي يقدِّمها. وأكَّد الفنان على إظهار جمالية الخط العربي من خلال اللوحات الفنية، إذ هدفت لوحته إلى (الدمج بين الهندسة المعمارية وفن الخط العربي ضمن إطارٍ علمي، فالخط بالنسبة له هندسةٌ روحية). وكان المُنطلَق الذي بدأ رسم اللوحة من خلاله هو: (الربط بين التراث المادي والتراث اللامادي الذي تتميز به المدن السورية، إضافةً إلى أن فن الخط العربي جزءٌ لا يتجزأ من التراث والهُويَّة العربية). أما بالنسبة للمناطق الأثرية التي تظهر في اللوحة (فقد اختارها نقاطًا متميزةً وتاريخيةً من كل محافظةٍ من المحافظات السورية). كان الهدف هنا الربطَ بين عنصرين من التراث العربي، كلٌّ منهما فريدٌ من وجهة نظر الفنان. يضيف هذان العنصران من خلال دمجهما بعدًا فنيًا جديدًا.
شرح الفنان خطواتِ إنجاز اللوحة التي عمل على تنفيذها: (بدأ الرسمَ من خلال (سكتش) أو رسمٍ سريعٍ لفكرة اللوحة، وكان أصحاب المنزل متعاونين جدًا ولم يُبدوا أي اعتراضٍ على الفكرة). وحاول الفنان أن يكون حذرًا في التعامل مع الجدار التاريخي. الجدار الذي رسم عليه مُؤلَّفٌ من قسمين: السفلي من الحجر، والعُلوي من الطين، وبإكساء طبقاتٍ طينيةٍ عدة، ورشةٍ تيرولية، لذا (أزال الكتابات التخريبية وأوراق النعوات كلها، ثم بدأ العمل على طبقةٍ بيضاءَ من الدهان يشابه اللون الأصلي للجدار قبل مرور الزمن عليه ليقدِّم في النهاية لوحةً جداريةً أسماها "التراث") (15).
صورةٌ لإحدى رسومات مبادرة «فن الطريق» بعنوان: "التراث".
لاقت بعض اللوحات الانتقادَ بسبب تعبيرها الفني المنفصل عن الإرث اللامادي للحارة أو التقنية المنخفضة من وجهة نظر المهتمين، وذلك يعود لعدم وجود منهجيةٍ أو خُطةٍ تسبق العمل لتعطي منتَجًا فنيًا يلائم المكان. مع لحظ بعض اللوحات المرتبطة بتراث المدينة من خلال عناصرَ تنتمي لهُويَّة مدينة دمشقَ من وجهة نظر الفنانين. مما يعطي فراغًا عامًا «ساحة حارة التيامنة» شديد التنوع يطغى على أهمية الفراغ التاريخي .
يضم التراث اللامادي للمدينة التقاليد أو أشكال التعبير الحية الموروثة من أسلافنا التي ستنتقل إلى أحفادنا (16). ولم يُلحَظ انعكاسٌ لهذا التراث الخاص بالحي ضمن مبادرة «فن الطريق»، ويعود ذلك إلى عدم إشراك السكان وأهالي الحي في الأفكار الأولية لما يودُّون رؤيته على جدران منازلهم.
غالبًا ما يُقيَّمُ «فن الشارع» في المقام الأول بناءً على جاذبيته المرئية وتجاهل التأثيرات الثقافية والتراث والإثنواغرافيا التي ساعدت في إبداعه (10). ولكن حتى من ناحية الجاذبية؛ فإننا نجد بعض الانتقادات التي طالت رسوماتِ «فن الطريق» وجاذبيتها الفنية أيضًا.
- ولمحاولة الوصول إلى معاييرَ واضحة؛ نقدِّم نقاشًا اعتمد على رأي خبيرٍ في مجال الفن والعمارة والتراث، ومن ثم استطلاعًا نتمنى مشاركتنا به لنصل إلى فهمٍ أعمق لدور الفن العام وإمكانية تطبيقه في مجتمعنا.
مشاركة رأيٍ للدكتور المعماري "أحمد سكر"، أستاذٌ مساعدٌ زائرٌ في قسم الهندسة المعمارية في جامعة الشارقة (17):
لـ«حي أو حارة التيامنة» أهميةٌ خاصةٌ عندي؛ فهي مرتبطةٌ بذكريات المدينة القديمة بالمقارنة مع الحديثة، وأي لمساتٍ فيها مثل «مبادرة ملتقى فن الطريق» ترتبط مباشرةً بتلك الذكريات وتؤثر فيها سلبًا أو إيجابًا حسب نوعية التدخلات وسياقها. منذ طفولتي وحتى أحدث زياراتي لسورية؛ كنت أمر عبرها تكرارًا للانتقال بين بيت أهلي في الزاهرة وبيت جدتي في «حي التيامنة» الذي سكنته لاحقًا، وكان لي مرسَمٌ هندسيٌّ فيه ولا زلت أؤمِّل العودةَ إليه. وقد درَسْتُ بيوتًا في الحي خلال دراستي للعمارة.
بالنسبة لي -وبعيدًا عن الذكريات الشخصية لكن بالارتباط معها-؛ ما يهم معماريًا وعمرانيًا هو روح هذه الحارة -بالمقارنة مع أجزاء المدينة الحديثة الملاصِقة لها- التي عشتها وكان لي فيها تجربةٌ وتفضيلاتٌ معماريةٌ عمرانيةٌ عفويةٌ قبل أن تصبح العمارةُ حرفتي. إن هذا النوع من المقارنات مهمٌّ لفهم روح الحارات القديمة وحساسية التدخل فيها والطرق الأنسب للتعامل معها، خصوصًا بالمقارنة مع روح الأحياء الحديثة.
فالمناطق القديمة -سواءً كانت داخل المدينة القديمة أو خارجها أو في مدنٍ أخرى- تكون مرتبطةً بصورةٍ مكثفةٍ بذكريات الناس الفردية والجماعية التقليدية، وأي مداخلةٍ عليها -بغض النظر عن قيمتها الذاتية- تتراوح بطبيعة الحال بين التركيز الشديد على المداخلة أو عدم القبول أو الرفض الحاد من فئاتٍ من الناس من جهة، واللامبالاة أو القبول أو الترحيب بها بل وحتى المطالبة بتكرارها من قِبَل فئاتٍ غيرها من جهةٍ أخرى. وتحقيق التوازن بين وجهات النظر المختلفة هذه -مع الأخذ بعين النظر نوعية المداخلة الفنية والمعمارية وقيمتها- لا يجب -برأيي الأكاديمي بوصفي باحثًا في التراث الثقافي المتنازَع عليه وساكنًا لهذا الحي مشتاقًا للعودة إليه- أن يكون قرارًا فرديًا من أي فنانٍ أو معماريٍّ أو مؤرخٍ أو فئةٍ إدارية، بل نتيجة دراساتٍ وتوافقاتٍ فنيةٍ وتقاطعاتٍ هندسيةٍ معماريةٍ وعمرانيةٍ على مستوى المدينة خاصةٍ بمجموعةٍ من التخصصات، وبالتأكيد أولًا وأخيرًا مع رأي الناس الذين يسكنون هذه الأحياء، أو تمسهم هذه المداخلات بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، وبالموازنة مع رؤية المتخصصين.
شخصيًا؛ أرى الحارات القديمة -كحارتي الجميلة والبسيطة والوادعة «التيامنة»- أجمل ببساطتها دون لمساتٍ إضافيةٍ على جدرانها، إلا ما قَل. لكنني أتفهَّم في الوقت نفسه بل وأرحِّب بوجهة النظر الأخرى وشعور الآخرين المختلف جماليًا ومكانيًا، وحتى حاجاتهم البراغماتية على اختلافها. وأشجِّع مثل تلك المبادرات طالما أنها تنشط وتحيي فراغ الحارات وتؤثر في الحدود الدنيا على الأسطح الملموسة منها.
أرى أن أهمية مبادرة "الأستاذ مصطفى علي" الفنان النحات المعلم السوري القدير مع مجموعةٍ لطيفةٍ من الفنانين الشباب الواعدين لا تكمن في نجاحها أو فشلها الذاتي أو في مدى جودة الأعمال الفنية المقدَّمة فيها أو تناسبها مع هذه الحارة؛ وإنما أنها أعادت فتح هذا الحوار والمناقشة على مستوى المدينة. وأتمنى أن يتابعوا مبادرتهم الجميلة في أماكنَ حديثةٍ نسبيًا وأقل جاذبيةً بالمقارنة مع تجاربهم في حي الشعلان و«حارة التيامنة». أما الوصول لمعاييرَ واضحةٍ في هذا المجال؛ فبحاجةٍ إلى أبحاثٍ معمقة، وقد أعددت مقالةً مختصرةً مع مقترحاتٍ محددةٍ بحسبانها مساهمةً في جانبٍ من هذه المعايير أتمنى نشرها قريبًا.
الاستطلاع:
"لا تخبرُ المدينة تاريخَها، وإنما تحتويه مثل خطوط اليد. تاريخها مكتوبٌ في زوايا أزقَّتها، قضبان نوافذها ودرابزين أدراجها... كل جزءٍ مميَّزٍ بخدوشٍ وتفاصيلَ وعلاماتٍ فارقة" عن الذاكرة والمدينة، "إتالو كالفينو" في كتابه (مدنٌ لا مرئية) (18).
سيشكل تكرار مبادرة «فن الطريق» تغيُّرًا في تاريخ المدينة وذاكرة قاطنيها من خلال تغيُّر التفاصيل التي تحتويها، ولكن ليكون هذا التغيُّر إيجابيًا؛ وجدنا أنه من خلال استعراض التجارب العالمية أو المحلية؛ كان للرسالة التي يقدِّمها «فن الشارع» دورٌ أساسيٌّ في نجاح التجربة سواءً من خلال ارتباطه بقصة المدينة وتراثها اللامادي، أو من خلال ارتباطه بالثقافات المختلفة والمتنوعة للمدينة. وبالتالي؛ وبحسبانها نتيجةً نظرية؛ لا تكفي رؤية الفنان الفردية ولوحته المنفصلة عن التراث اللامادي أو تاريخ المنطقة لتحقق هدف المبادرة في إبراز أهمية النسيج التاريخي والحفاظ عليه، لا بدَّ أن ينعكس التراث اللامادي للمنطقة ووجهة نظر سكانها من خلال الرسومات لنحقق الانسجام والقبول الاجتماعي.
ولدعم نتيجتنا النظرية باستطلاعٍ للرأي لأن المشاركة المجتمعية والمشاركة في الإبداع أساس نجاح أي مبادرةٍ لإحياء المدينة، ولِنساهم في تطوير مبادرات «فن الشارع» في سورية، وانطلاقًا من أهمية هذه المبادرات وكونها يجب أن تكون انعكاسًا لرؤية المجتمع، نطرح عليكم السؤال الآتي لنناقش الفكرة معكم، والنقاش الذي نطرحه عليكم نشرحه كالآتي:
يتعلق النقاش بالرسالة التي يجب أن يقدِّمها الإبداع الفني على جدرانٍ تاريخية.
في اللوحات والنتاج الفني لمبادرات «فن الشارع»؛ ما المعيار الأهم الذي يجب أن تحققه؟
1- أن تصوِّر اللوحةُ موضوعاً من تراثنا اللامادي (طابع المنطقة وتاريخها)؟
2- أن تصوِّر اللوحةُ وجهة نظرٍ إبداعيةٍ فرديةٍ (فكرةٌ من مخيلة الفنان المبدع من الممكن أن تكون مرتبطةً بالتراث أو المدينة أو الذاكرة البصرية الشخصية للفنان)؟
أم هل تفضلون عدم الرسم على الجدران التاريخية نهائيًا؟ شاركونا رأيكم.
الهوامش:
1: Nomeikaite L. Street art, heritage and embodiment. Str Art Urban* Creat. 2017;3(1):43–53.
2: (19) ورد اسم «تيامنة - TAYAMNEH» في كتاب "روس بيرز - Ross Burns"، (دمشق تاريخ Damascus a history).
وورد في كتاب (موسوعة كنائس دمشق)، الكاتب: "متري هاجي أثناسيو".
وورد في كتاب (معالم دمشق التاريخية: دراسةٌ تاريخيةٌ ولغويٌة عن أحيائها).إصدار وزارة الثقافة لعام 1996. الكتَّاب: "أحمد الإيبش" و"د. قتيبة الشهابي". وذُكِرَ عن الحارة: "«حارة التيامنة» في الميدان التحتاني، إلى الشرق من مستشفى المجتهد. و«التيامنة» هم سكان (وادي التيم) من السفوح الشمالية لجبل الشيخ في لبنان، قضاء راشيا، قدِم بعضهم إلى دمشق وتوطنوا بها في هذا الحي" (20).
3: في سياق سؤالنا لا بدَّ من تعريف التراث اللامادي بأنه: (التقاليد أو أشكال التعبير الحية الموروثة من أسلافنا والتي ستنقل إلى أحفادنا. ويشكل التراث الثقافي غير المادي -على الرغم من طابعه الهش- عاملًا مهمًا في الحفاظ على التنوع الثقافي. ففهم التراث الثقافي غير المادي للجماعات المختلفة يساعد على الحوار بين الثقافات، ويشجع على الاحترام المتبادل لطريقة عيش الآخر) (16).
4: الأستاذة "هلا قصقص": باحثةٌ في الفن الإسلامي والتراث العمراني، ونشرت كتبًا عدةً في هذا الإطار. حصلت على درجة الماجستير في الديكور الداخلي في جامعة دمشق، ودبلومًا في المؤثرات المرئية والسينمائية في جامعة (شيريدان - Sheridan)، كندا.
المصادر:
5. بركات س، الكحلوت غ. دروس مستفادة من تجارب الإنعاش ما بعد النزاعات المسلَّحة: نحو عمل عربي موحد. سياسات عربية
[Internet]. 2018;30:24–39. Available from: هنا
13. خليفة ف. درجُ الأمل إلى دمشق. الأخبار
[Internet]. 2018 [cited 2021 Jan 12]; Available from: هنا
14. "فن الطريق" مستمر بعزيمة شبابه [فيديو]. 2020. جريدة الوطن السورية [cited 2021 Jan 3]. متوفر من الرابط: هنا.
15. كرد علي ح، المحاور إبراهيم س. لوحة "تراث" في مبادرة فن الطريق: الباحثون السوريون. [مقابلة، 1 كانون الثاني] 2021.
16. ما هو التراث الثقافي غير المادي؟
UNESCO [Internet]. [cited 2020 Dec 30]. Available from: هنا
17. سكر أ، المحاور ابراهيم س. مشاركة رأي من أحمد سكر ضمن مقالة من إعداد سونيا إبراهيم "فن الشارع والتراث اللامادي في حارة التيامنة": الباحثون السوريون.[مقابلة، 4 كانون الثاني]; 2021.