البيولوجيا والتطوّر > التقانات الحيوية
ماذا عن طريقة جديدةٍ للحصول على المركبات الطبيعية بدلًا من استخلاصها من النباتات مباشرةً!
لربُّما شاهدت أو قرأت في أحد أفلام الخيال العلمي والحكايا عن عشبةٍ ما في تلك الغابة أو وصفةٍ سحرية ما حُضِّرت من نباتات ذاك الجبل، يتعرض بطل القصة إثر تناولها لأهلاسات أو فقدانٍ للذاكرة أو أعراض غريبةٍ تُثير فضولك عمَّا حصل وكيف حصل! نعم، إنَّ أساس هذه القصص مبنيٌّ على حقيقة وجود كثيرٍ من النباتات الطبية وكثيرٍ من المركبات الدوائية التي اشتُقت منها على مر التاريخ.. واليوم لم يعد الأمر مقتصرًا على النباتات؛ إذ يبدو إننا -قريبًا- سنتمكن من محاكاة ما يحصل من عمليات في النبات لإنتاج مركبات دوائية عن طريق الخمائر (Yeasts)..
لنتعرف معًا في هذا المقال إلى آخر ما توصلت إليه مخابر الهندسة الوراثية في هذا الشأن وعلى الأفق الواسع الذي تفتحه أمام عالم الصناعات الدوائية.
شكَّلت المملكة النباتية -تاريخيًّا- حجر أساس كبير في عالم اكتشاف المركبات الدوائية واستخلاصها منذ قرابة 2600 عام قبل الميلاد، من الأسبرين وأشجار الصفصاف إلى الأفيونات المخدرة ونبات الخشخاش وكثيرٍ من الأمثلة، ولا تزال اليوم تشغل حيزًا كبيرًا في عالم الصناعات الدوائية، ولكن لأسباب عديدة -بيئيةٍ واقتصادية- دعت الضرورة إلى إنتاج ما أمكن من هذه المركبات صناعيًّا بدلًا من استخلاصها بصورة مستمرة من النباتات؛ إذ لا تلبِّي الكميات الموجودة في المصادر الطبيعية حاجة الشركات الدوائية والمؤسسات البحثية في العالم على نحوٍ مستمر، إضافةً إلى تأثرها المستمر بالأزمات المحلية أو العالمية كالحرائق التي طالت غابات أستراليا في عامي 2019 و2020 أو وباء فيروس كورونا المستجد هذا العام الذي شكَّل عائقًا أمام عمليات نقل المواد الخام وتوزيعها من مصادرها الطبيعية إلى الدول المصنِّعة (1,2).
وعندما اتجهت المحاولات نحو صناعة هذه المركبات الدوائية النباتية ضمن الكائنات الحية الدقيقة لاقت -على الرغم من فعاليتها- صعوبات جديدة؛ كعدم معرفة الإنزيمات المسؤولة عن اصطناع المركبات أحيانًا أو عدم فعاليتها خارج الخلية النباتية مثلًا (3)، وبدأت الجهود الفردية من معاهد ومختبرات عدة على مستوى العالم لتخطي هذه الصعوبات ومحاولة الاستعاضة عن المصادر النباتية بالكائنات الحية الدقيقة لاصطناع مركبات دوائية أكثر مردودًا ونوعية وعلى نحو أكثر صداقة للبيئة!
تجارب واعدة في هذا السياق:
ابتكر فريق بحثيٌّ في مختبرات الهندسة الوراثية في جامعتَي ستانفورد وسان فرانسيسكو بأمريكا طريقةً لإنتاج سلالة من الخمائر تُدعى (S. cerevisiae) أو السُّكيراء الجعوية قادرة على تحويل السكاكر البسيطة والأحماض الأمينية إلى مركبَين من القلويدات الدوائية هما (scopolamine) وطليعته (hyoscyamine)*؛ إذ عدَّل الباحثون هذه الخمائر جينيًّا لزيادة التعبير عن 26 جينًا مختلفًا مرمزًا لعدة نواقل بروتينية وإنزيمات استقلابية من عدة ممالك حياتية٬ إضافةً إلى تعديلات جينية أخرى. وكان السر الأساسي لنجاح هذه الطريقة هو تطبيق عملية تجزئة (compartmentalization) لكلٍّ من هذه الإنزيمات والنواقل وتوزيعها على ست مناطق خلوية مختلفة، ممَّا ساعد في تجنب تداخل هذه الطرائق الاستقلابية فيما بينها أو تأثير النواتج الاستقلابية الوسيطة بعضها في بعض، إضافة إلى تعزيز تفاعلات الإنزيمات والنواقل مع أهدافها بنوعية أكبر(2).
كذلك اقترح فريق بحثي آخر بمختبرات الهندسة الوراثية لجامعة ستانفورد في أمريكا عدة استراتيجيات لاصطناع مركبات الـ Phytochemicals** باستخدام الخمائر (yeasts) بدلًا من الاستمرار في اعتماد النباتات مصدرًا أساسيًّا لاستخلاصها، وذلك للأسباب آنفة الذكر ذاتها من محدودية الكمية إلى صعوبة طرائق الاستخلاص وتكلفتها. اعتمد الباحثون عمومًا على تحديد الإنزيمات الأساسية المسؤولة عن اصطناع الـ phytochemicals في النباتات عن طريق تنقيب جينوماتها بحثًا عن الجينات المرمزة لهذه الإنزيمات تحديدًا ثم إلى تعديل إنتاج هذه الإنزيمات بواسطة زيادة معدلات انتساخها وأخيرًا تطبيق استراتيجية الـ compartmentalization لفصل طرائق الاستقلاب عن بعضها وتقليل فرص تأثير النواتج الوسيطة بعضها في بعض ما أمكن (1).
وعمومًا على الرغم من صعوبة الخطوات الأولية لأمثَلَة طرائق الاصطناع الحيوي لأي من المركبات الطبيعية ضمن كائنات دقيقة كالخمائر، لكن يبدو أنها ستُعطي مردودًا أكبر بطرائق أقل جهدًا وأكثر صداقة للبيئة حالما يُعثر على الجينات والإنزيمات المسؤولة عن ذلك، وتُنظَّم بروتوكولات خاصة بالاصطناع الحيوي لكلِّ مركبٍ طبيعي بدلًا من استخلاصه من مصادره الأولية.
هوامش:
*(hyoscyamine) و (scopolamine) قلويدان من مجموعة Tropane alkaloids، يتصفان بسمية مميتة ومصدرهما الأساسي هو نبات nightshade، إضافةً إلى نباتات أخرى مثل jimsonweed والبندورة، يحجبان تأثير الناقل العصبي أستيل كولين، ولهما عديدٌ من الاستخدامات الطبية كمعالجة الغثيان والمشكلات الهضمية إضافةً إلى استخدامهما في بعض الأمراض العصبية كداء باركنسون (4,5).
** الـ Phytochemicals هي مركبات نباتية موجودة في الخضار والفواكه عمومًا تعطيها خصائص اللون أو الرائحة أو الطعم، ولوحظ أنَّ لها أدوارًا عديدة في حماية النباتات من الإصابات الفطرية أو الفيروسية إضافة إلى فوائد استهلاكها لدى الإنسان بتقوية المناعة ومكافحة الالتهابات (6).
المصادر: