الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الأخلاق وعلم الجمال
«الكمال الأخلاقي» عند "نيتشه"؛ التضحية من أجل النخبة
تندرج آراء "فريدريك نيتشه - Friedrich Nietzsche 1844-1900" عن الأخلاق تحت ما نسميه اليوم بـ«الكمالية الأخلاقية - Moral Perfectionism»، وهي رأي يُقيِّم الأفراد وأفعالهم وفق معيارٍ أعظم للإنجاز، وتحديدًا مدى مقاربة هذه الأفعال لمُثُل الكمال الفكري أو المادي أو الجمالي، وبهذا تستغني عن الأخلاقيات العرفية لصالح معاييرَ مؤسسةٍ على قيمٍ غير أخلاقية، وتعكس هذه المعايير إعجابًا بمستوياتٍ معينةٍ ونادرةٍ للإنجاز البشري تتميز بكونها فنيةً أو إبداعيةً بصورةٍ عامة، لكنها تشمل تنويعةً من الأنشطة الأخرى التي تُعدُّ أنشطةً نبيلةً كالجَلَد البطولي في وجه المعاناة، ومن الأمثلة على الكمال البشري الجدير بالاحترام: العبقري النادر، والقلة الملهمة، والفنان الشجاع (1).
ويتبنى كثيرٌ من الآراء الكمالية «التفسير الغائي - Teleological Explanation» الذي يَعدُّ السلوكيات البشرية جميعها موجهةً نحو غايةٍ واحدةٍ هي تطوير سماتٍ معينة، وهي سماتٌ جوهريةٌ للبشر؛ لأنها تؤسس لهذا الهدف. ويرى "نيتشه" أن «إرادة القوة» هي الأساس الذي تُستمَد منه الأفعال الإرادية كلها.
ولأنه بحسب الكمالية الغائية -أنَّ البشر يميلون طبيعيًّا إلى تطوير طبيعتهم إلى أعلى درجةٍ- نجد الفلسفتين الهيغلية والماركسية من الفلسفات الكمالية الغائية المتفائلة التي ترى أنه بغض النظر عما يحدث في حياة الأفراد؛ فإن التاريخ البشري يسير نحو التطور الأكمل للسمات البشرية الأساسية، ومرجع تفاؤلها عدُّها أنَّ العالم مُرتَّبٌ بصورةٍ تسمح بتحقيق الخير؛ فإذا ذللت العقبات أمام البشر فإنهم سيحيون أفضل حياةٍ يستطيعونها، ومن ناحيةٍ أخرى عدم وجود تعارضٍ بين الكمال وباقي أشكال الخير الأخرى؛ فإذا أراد البشر تطوير جوهرهم فإن الحياة الأكمل هي الحياة التي تشبع رغباتهم، وهكذا إذا كانت أنشطة من يسعى إلى الكمال أكثر متعةً فإن الحياة التي تملؤها هذه الأنشطة ستكون هي الحياة الأمتع، لذلك لا تعارض في عالم القيم بين هدف الكمال والأهداف غير الكمالية كاللذة وإشباع الرغبة (2).
بيد أن كمال "نيتشه" الأخلاقي يناقض هذه الآراء؛ إذ يمتاز بنزعةٍ تشاؤميةٍ ترفض المزاعم المتفائلة؛ فمثلًا: عند رؤية أن التطور -كما يقدمه "دارون"- يهدف إلى توليد أشكال حياةٍ أرفع وأعلى؛ فإن "نيتشه" يرى أن الانتقاء الطبيعي يعمل بصورةٍ مُمنهجَةٍ ضد القيم الأعلى ويحبط نواتجها، وينكر حدوث أي تطورٍ في التاريخ البشري أيضًا، وهكذا كلما كانت إمكانية المرء للكمال أكبر كان احتمال تحقيق المرء له أقل؛ لأن شروط نجاح الأفضل أكثر تعقيدًا وبذلك أقل توفرًا، لا يوافق "نيتشه" أيضًا على كون الحياة الأكمل هي الحياة الأكثر امتلاءً بالمتعة؛ لأن هاتين القيمتين لا تتوافقان معًا، لأن المعاناة شرطٌ أساسيٌّ للإنجاز.
ويضيف أن العقبات التي تواجه الإنجازات الكاملة ليس منبعها خارجيًّا فحسب بل داخليًّا أيضًا؛ والمقصود بذلك هو الميول المضادة للكمال أو اليأس الداخلي؛ وذلك عندما يفضِّل الأفراد أنواعًا أدنى أو أقل من الإرادة ومن ثم تكون أقل قيمةً لأنفسهم وللآخرين، وهي حالة يسميها بـ«الافتقار إلى إرادة القوة»، وهو ما يتناقض -بحسب ما يرى بعض الدارسين لفلسفته- مع رأيه الغائي الذي يماهي جوهر الإنسانية بسعيها إلى القوة (2).
ولأن بلوغ «الكمال الأخلاقي» رهنٌ بالأفضل (النخبة) وهي فئةٌ قليلةٌ من الأفراد؛ فقد كانت مناهضة المساواة من ركائز الكمال لدى "نيتشه"؛ إذ رأى أن النظام الأرستقراطي القائم على التراتبية هو الأفضل، فالقيمة في المجتمع لا تعتمد على معدل كمال الأفراد كافة، بل تعتمد على تفوق الأقلية الأكثر كمالًا من أفرادها أو ارتقائها؛ لذلك يجب أن تسعى البشرية إلى إنتاج أفرادٍ عظماء، ولتكن هذه هي غايتها الوحيدة ولا غاية سواها (2)، وتسعى هذه النخبة إلى حياةٍ معينةٍ يصفها "نيتشه" بــ«الفن النادر العظيم»، فكما يخلق الفنان رؤيته للأعمال التي ينوي تنفيذها مستقبلًا، فإن الفرد يضع خطةً لحياته ويرسم لنفسه أهدافًا يكون تحقيقها أساس تحقيق هذه الخطة، وعندما يحقق الفرد تلك الأهداف فإنه يخلق كينونته (3).
وهكذا أسس "نيتشه" نظرية «الكمال الأخلاقي» على الأطروحات الآتية:
1- بلوغ القيم النهائية الأعلى يتطلب تحقيق أعلى صور التفوق.
2- تتحقق أعلى صور التفوق بين الأفراد القادرين على ذلك فحسب، وهم الفئة الأرقى أو فئة النخبة.
3- تضع الفئات الأعلى أهدافها، ويجب أن تهدف هذه الفئة إلى كمالها وحدها فقط.
4- توجد القيم العليا حيثما يوجد الأفراد الأرقى، ولا يهم ما إذا كانت إنجازاتهم مهمةً للآخرين أو لا.
5- لا قيمة لما يفعله الأفراد العاديون أو من ليسوا من فئة النخبة إلا ما يتعلق بما يمارسون من أفعال أو ما يحوزونه من قيمٍ تعرقل التفوق.
6- ليس لدى الأفراد غير المتفوقين أي سببٍ يدعوهم للسعي إلى صالح فئة النخبة (3).
وبذلك يكون الصنف الأرقى والأنبل الصنف المبدع القادر على الاختيار لنفسه عوضًا عن الرجوع إلى السلطة الأعلى الموجودة مسبقًا، فالصنف النبيل من يحدد القيم ويخلقها. وإذا كان صالح المجتمع يعتمد كليًّا على صالح أفضل أفراده؛ فإن هؤلاء الأفضل يجب أن يكونوا الأكثر علوًّا وسموًّا، ويجب أن ينحصر سعيهم إلى الكمال في الاعتراف بكمالهم وكمال أقرانهم فقط، بينما تضحي الأغلبية بأنفسها لأجل صالح أسيادهم النخبة (2,3).
المصادر: