البيولوجيا والتطوّر > علم الأعصاب
الحبُّ.. ترياق ألزهايمر
يمثّل الحبُّ أحد أقوى المشاعر التي يمر بها الإنسان والتي تؤثر تأثيرًا كبيرًا في حياته، وهو مصدر إلهام كبير في مجالات الفنون والأدب والنشاطات المختلفة في تاريخ البشرية. وعلى الرغم من وجود مفهومات فريدة للحب في جنسنا البشري، فإنّه من المحتمل أن تكونَ مبنية على آليات عصبية تأسيسية قديمة تتحكم بالتعرف إلى الذات وبمفهومات المكافأة الاجتماعية والسلوك الإقليمي ورعاية الأم لأبنائها... إلخ (1).
أظهرت عديدٌ من البيانات في مختلف الثقافات أنَّ العلاقة المستقرة بين الزوجين لها كثيرٌ من الآثار الصحية الإيجابية، متضمنّةً انخفاضَ معدل الوفيات (2). في حين يرتبط عدم الاستقرار والصراع بمشكلاتٍ متعددة كالاكتئاب (3)، وانخفاض المناعة (4)، وتدهور صحة القلب والأوعية الدموية (5).
جسمُ الإنسان منظومة معقدة جدًّا، تتخللها كثير من العوامل التي تحكمها، وتمثل الهرمونات ضابط الإيقاع الرئيسي فيها. ويوجد أنواع متعددة من الهرمونات في الجسم، ولكلٍّ منها دوره المهم جدًّا، وأحد أهم هذه الهرمونات -محط تركيزنا في هذا المقال- هو هرمون الأوكسيتوسين (6).
الأوكسيتوسين: هو ببتيد مُكوَّن من تسعة أحماض أمينية ينظم عديدًا من السلوكيات الاجتماعية، متضمّنةً رعاية الوالدين لأطفالهم (7)، والأُلفة الاجتماعية* (8)، والسلوكيات المرتبطة بالتعاطف (9)، والترابط الاجتماعي (10,11)، والعلاقة بين الأم والرضيع (7,12).
يُطلق على الأوكسيتوسين أيضًا اسم "هرمون الحب" نظرًا إلى دوره الكبير في الترابط الاجتماعي والتكاثر والولادة، فهو يمثل أحد الأشكال الكيميائية للحب، إذ إنَّ الجسمَ يبدأ بإفراز هذا الهرمون على المدى البعيد لعلاقة الحب (12).
في عدّةِ دراسات حديثة؛ وجدَ الباحثون أنَّ لهذا الهرمون أيضًا قدرة على التأثير في ذاكرتنا ولكن بطرائق غير واضحة تمامًا، فقد تبيَّن أنَّ دوره بالتأثير في مهام الذاكرة -مثل ضعف الذاكرة أو فقدانها لدى البشر- يعتمد على شخصية الإنسان الذي تعرّض للاختبار، ووجدت الدراسات التي أجريت على الحيوانات أن لهذا الهرمون آثارًا مفيدةً على الذاكرة في بعض الحالات.
ومن المثير للاهتمام أنَّ دراسةً أُجريت بعد الوفاة على شريحة معينة أظهرَت أن الأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر لديهم مستويات أعلى من الأوكسيتوسين في المناطق المرتبطة بالذاكرة في دماغهم، ممَّا يعني أن المستويات المرتفعة منه في هذه المناطق يمكن أن تسبب مشكلاتٍ في الذاكرة. في حين أشارت نتائج دراسة حديثة أُجريَت على الفئران إلى أنَّ الأوكسيتوسين يمكن أن يساعد على مواجهة العوامل المسببة لمشكلات الذاكرة الموجودة في مرض ألزهايمر.
ومن أجل فهم التأثير الوقائي للأوكسيتوسين؛ من المهم فهم الآليات التي تسبب ضعف الذاكرة لدى الأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر:
1- يعاني الأشخاص المصابون بمرض ألزهايمر من تراكم شكل سام من الببتيد الطبيعي الذي يُسمَّى بيتا أميلويد beta-amyloid في الدماغ، ولهذا الببتيد شكلَان أحدهما سام والآخر غير سام. ويُعتقَدُ أنَّ بيتا أميلويد في شكله غير السام يشاركُ في تنظيم الجهاز العصبي المركزي وحمايته وإصلاحه، أمّا في شكله السامّ فتتجمَّعُ جزيئات بيتا أميلويد معًا في الدماغ، التي يمكن أن تشكل في النهاية رواسبَ تُسمَّى لويحات دماغية. وقد تُعطِّل هذه اللويحات وظيفة خلايا الدماغ، وقد تتسبب بموت الخلايا العصبية في النهاية، ممَّا قد يؤدي إلى فقدان الذاكرة.
2- أظهرت بعض الدراسات المستندة على الحيوانات in vivo والخلايا in vitro أنَّه حتى التعرض القصير المدى لبيتا أميلويد السامّ يُنشِّط الجهاز المناعي الفطري في الدماغ مما يُفَعِّل الاستجابة المناعية تفعيلًا غير مناسب، ويبدأ الجهاز المناعي بقتل الخلايا العصبية الخاصة به -بدلًا من حمايتها- ممَّا يسبب تطورَ مرض ألزهايمر.
3- و في دراسات أخرى؛ تبيَّنَ أيضًا أنَّ التعرُّضَ القصير المدى لبيتا أميلويد السام يمكن أن يقلل من قدرة المشابك العصبية لخلايا الدماغ على تعديل طريقة تواصلها وإنشاء روابط جديدة مع الخلايا الأخرى، وهي قدرة تمتلكها الخلايا العصبية تُعرَف باللدونة المشبكية synaptic plasticity تؤدّي دورًا مهمًّا في قدرتنا على التعلم والتذكر.
أظهرت دراسات سابقة على الحيوانات أنَّ الأوكسيتوسين يمكن أن يقوّي الذاكرة الاجتماعية ويحسن الذاكرة المكانية في فترة الأمومة لدى الفئران. ولكن حتى الآن؛ لم تتحقق أي دراسات من أنَّ للأوكسيتوسين دورًا في منع بيتا أميلويد السام من تقليل اللدونة المشبكية أو أنَّ له آثارًا مفيدةً للذاكرة في مرض ألزهايمر.
و في دراسة حديثة أجراها الباحثون على ذكور الفئران؛ عالج الباحثون فيها عيناتٍ دماغيةً ببيتا أميلويد السام بغرض تأكيد الدور السلبي لهذا البروتين على اللدونة المشبكية في الدماغ، ثم عالجوا العينات باستخدام مادة بيتا أميلويد السامة والأوكسيتوسين معًا. وقد بيَّنت النتائج أنَّ إضافة الأوكسيتوسين قد منع بيتا أميلويد السام من التأثير سلبًا على اللدونة المشبكية. ولكن عندما عولجت العينات بالأوكسيتوسين وحده لم يكن له أيُّ تأثيرٍ على تحسين اللدونة المشبكية.
وخلص الباحثون إلى أنَّ الأوكسيتوسين قد يكون علاجًا مستقبليًّا لفقدان الذاكرة المرتبط بالاضطرابات المعرفية، مثل مرض ألزهايمر، ويُعدُّ هذا اكتشافًا مثيرًا للاهتمام والأول من نوعه في هذا المجال على الرَّغم من أنَّ الأدلة ليست قوية بما يكفي لتأكيد أنَّ الأوكسيتوسين يمكن أن يمنع أو يعكس المشكلات المعرفية الناتجة عن مرض ألزهايمر، وذلك لعدة أسباب أهمُّها أنَّ مرض ألزهايمر يُعدُّ أكثر تعقيدًا من مجرد تراكم بيتا أميلويد في الدماغ، ممَّا يعني أن طريق البحث في هذا المحور ما زال طويلًا (13،14).
هوامش:
* الأُلفة الاجتماعية: تتأسس من خلال قدرة الفرد على التعرف إلى شخص من النوع ذاته (مثلًا من النوع البشري) بعد التعامل معه سابقًا.
المصادر: