الجغرافيا البشرية والعلوم الإقليمية > الجغرافيا الاقتصادية
من أين يأتي الفقر؟ وهل يمكن أن يزول؟
عند تحليل الخريطة العالمية لإجمالي الناتج المحلي للفرد، وُجدت علاقة وثيقة بين الموقع الجغرافي والتقدُّم الاقتصادي؛ إذ تتمتَّع الدول ذات البحار والمصادر المائية الأخرى الموجودة على أطرافها أو التي تمر بها بفوائد اقتصادية عديدة (1)، لكنَّ العديد من دول قارة أفريقيا لا تتمتع بهذه المصادر المائية وتتَّصف بأنها دول حبيسة أو غير ساحلية (Landlocked countries)، ويبلغ عددها في القارة الأفريقية 16 دولة (2)، ويؤدي ذلك إلى انخفاض دخل هذه المناطق، وفي الواقع لا تتمتع أية دولة من الدول الحبيسة الواقعة خارج أوروبا بمستوىً مرتفع من إجمالي الناتج المحلي للفرد (1)
وتُعدُّ معظم المناطق المدارية فقيرة بعكس المناطق الموجودة في الخطوط العرضية البعيدة عن خط الاستواء (1)؛ إذ تتركز المناطق ذات الدخل المرتفع في المواقع الجغرافية المعتدلة مناخيًّا (3).
وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة للعام 2019 م، فإن إجمالي الناتج المحلي للفرد (GDP per capita) قد بلغ في قارة أفريقيا 2000 دولار أمريكي في حين وصل إلى 47000 دولار أمريكي لدى الدول المتقدمة (4)، ويعرَّف إجمالي الناتج المحلي للفرد بأنه القيمة الإجمالية للخدمات والبضائع المنتجة من قبل الدولة في سنة محدَّدة مقسومة على رقم سكان هذه الدولة (5).
و تلخص المفارقة الآتية الفجوة بين قيمة الإنتاج العالمي وتوزعه؛ إذ يُنتَج نصف إجمالي الناتج المحلي في العالم من قبل 15% من سكان العالم، في حين ينتج نصف سكان العالم الأكثر فقرًا 14% من إجمالي الناتج المحلي في العالم، وتقع 17 دولة من الدول العشرين الأكثر فقرًا في أفريقيا المدارية (3).
أما الرابط بين التخلف الاقتصادي والموقع الجغرافي فيرجع إلى أسباب عدة من بينها:
- اضطرار الدول الحبيسة إلى دفع تكاليف إضافية (ضرائب) للدول الساحلية، إضافةً إلى صعوبة تطوير البنى التحتية عبر الحدود.
- الكثافة السكانية في الدول الساحلية التي تُعدُّ عاملًا مساعدًا للتطوير الاقتصادي، بسبب اتساع التجارة ممَّا يوفر فرصًا أكبر للعمل مثلًا، وعلى النقيض من ذلك تشكِّل هذه الكثافة في المناطق النائية عاملًا مقوِّضًا للتطور.
- التأثير الذي يفرضه الموقع والمناخ في مستوى الدخل ونموه عن طريق التأثير في تكاليف النقل، والأعباء الناتجة عن انتشار الأمراض، والإنتاجية الزراعية (1).
وليست الجغرافيا العامل الوحيد للفقر؛ فهناك أسباب أخرى ومنها الأسباب السياسية:
فبعد رصد 52 دولة أفريقية في الفترة التي امتدت بين العامين 1980م و2013م، تبيَّن وجود علاقة ثنائية الاتجاه بين الاستقرار السياسي ومستوى النمو الاقتصادي وخصوصًا لدى الدول المتأثرة بالصراعات، ويشمل تأثير الوضع السياسي في النمو الاقتصادي نظام الضرائب وعجز الحكومة المالي والتضخم، وتؤثِّر هذه العوامل جميعها في مستوى الاستثمار ممَّا ينعكس على معدلات نمو الاقتصاد، ومن ناحيةٍ أخرى يهيِّئ النمو الاقتصادي المنخفض الظروف المناسبة للزعزعة السياسية (6).
ويشير تقرير التنمية البشرية للعام 2001م التابع للأمم المتحدة إلى أنَّ تقلص الفقر والزيادة في متوسط العمر المتوقع، وتحسن الغذاء وتعليم الكبار في آخر ثلاثة عقود في العديد من الدول النامية كان مرتبطًا بانتشار الديموقراطية وحقوق الإنسان عن طريق إنهاء أنظمة الحكم العسكرية أو ذات الحزب الواحد، والانفتاح السياسي (7).
الأنظمة السلطوية تفاقم مستويات الفقر في أفريقيا:
هناك عدد من الطرائق التي أدت فيها أنظمة السلطة إلى تفاقم مستويات الفقر في أفريقيا، وذلك لأنَّ مثل هذه الأنظمة تعاني من غياب الشفافية والانفتاح والمسؤولية وهذا ما يشكِّل بيئةً خصبةً للفساد، وعلى سبيل المثال، تُعدُّ دولتا بوتسوانا (Botswana) وموريشيوس (Mauritius) المتمتِّعتان بالحكم الديموقراطي من أكثر الدول الأفريقية التي سجلت مستويات نمو سريعة، وعلى العكس بالنسبة إلى نيجيريا (Nigeria) ذات الحكم العسكري منذ الاستقلال التي ما زالت تعاني من اقتصادٍ فقير على الرغم من امتلاكها كميات كبيرة من النفط.
إضافةً إلى أنَّ العديد من دول أفريقيا قد عانت من ويلات الحرب أو ما زالت تعاني منها، وهذا كله لا يشجع أي استثمارٍ أو نموٍّ اقتصاديٍّ داخلي أو خارجي (7).
هل المساعدات الخارجية هي الحل؟
لا يمكن أن يكون استمرار المساعدات الخارجية لدول أفريقيا الفقيرة حلًّا فعَّالًا في علاج الفقر والجوع، فبعد نجاح ما يُسمَّى (Green Revolution) أو الثورة الخضراء (8)؛ التي تصف الزيادة في الإنتاج الزراعي بسبب التطور في هذا المجال بين سيتينيات وسبعينيات القرن العشرين (9)، وتمكُّن هذه الثورة من حماية الهند وباكستان ومناطق أخرى من آسيا من المجاعة، والتي حوَّلت الغذاء إلى مادة رخيصة ووفيرة، حالت هذه الوفرة دون السعي إلى المزيد من التطوير الزراعي وخصوصًا على مستوى أفريقيا، واكتفت الدول بالمساعدات وفقًا للرغبة الغربية؛ إذ وجدت الدول المتقدمة أنه بإمكانها إطعام دول أفريقيا وحمايتها من الجوع بسبب الغذاء الوفير، ولكن لم تستمر هذه المساعدات؛ إذ لم يستمر الإنتاج كما ذُكِر سابقًا وانخفضت المساعدات العالمية الموجهة إلى أفريقيا من 8 مليار دولار في ثمانينيات القرن العشرين إلى أقل من 3 مليار دولار (8).
إنَّ البحث والتطوير الزراعي في سبيل تنمية إنتاج الأغذية الأساسية يُعدُّ أحد أكثر الطرائق فاعلية في تقليص الجوع والوصول إلى الأمن الغذائي؛ ففي جزيرة مدغشقر على سبيل المثال من الممكن أن تقلِّل مضاعفة إنتاج الرز نسبة السكان غير الآمنين غذائياً بنسبة 38%، وأن تقصِّر متوسط فترة الجوع بمقدار الثلث، وترفع من الأجور الحقيقية للعمال بنسبة 89% في فترات الرخاء وهذا يعود بالخير على جميع الفقراء العاملين والمستهلكين والمزارعين (10).
وفي الختام، من المهم ذكر أنَّ الفقر والعجز في التقدم الاقتصادي ليس محصورًا في القارة الأفريقية وحدها، وقد ذُكِرت دول هذه القارة مثالًا توضيحيًّا عن العوامل الجغرافية التي تؤثر في النمو الاقتصادي، فهل تعتقدون أنَّ العوامل التي ذُكِرت في هذا المقال تنطبق على حالات العجز الاقتصادي في دول أخرى في العالم أم أنَّ هناك عوامل أخرى ساهمت في ذلك؟
المصادر: