البيولوجيا والتطوّر > التطور
قصتان من دفتر التَّطور في أسبوعٍ واحدٍ
القصة الأوّلى: جمجمة الرجل التنين
قصتنا بدأت في الصّين، عندما جمع أحد البنائين أحفاده وهو على فراش الموت ليخبرهم عن الجمجمة الّتي عثر عليها في أثناء عمله في بناء جسر، وخبأها في بئر قريب من نهر "سونغوا" بالصّين في القرن الماضي؛ ليستخرجها أحفاده فيما بعد، ويتبرعوا بها لمتحفِ علوم الأرض في جامعة هيبي جيو Hebei GEO، ولكن العجوز قد فارق الحياة قبل أن يُطلع أحفاده على المكان الّذي وجدها به، جاعلًا من مهمةِ تحديد عمرها أمرًا لا يخلو من الصعوبة على الباحثين، فكانوا غيرَ متأكدين من مكان اكتشاف الجمجمة والطَّبقة الّتي استُخرجت منها أو ما يعرف بالسياق الجيولوجي للاكتشاف.
وقد أطلقَ الباحثون على هذه الجمجمة اسم جمجمة الرجل التنين (Dragon Man)، وتعدُّ أحدثَ عضو مقترح في الأسرة البشريَّة، والّذي عاش منذ أكثر من 146000 عام.
أصبحت جمجمة الرجل التنين "Homo longi"، محورَ الحديث عند المهتمين بالبحوث التَّطوريَّة؛ إذ طرحت العديدَ من التَّساؤلات الّتي تحتاج إلى إجابات دقيقة كما أثارت جدلًا كثيرًا.
فبينما قال فريق الباحثين الصينيين الّذي درس الجمجمة بالتعاون مع شركاء في أوربا إنَّ النوع المكتشف ينتمي إلى نوعٍ جديدٍ كليًّا، أكثر قربًا للإنسان العاقل Homo sapiens من إنسان نياندرتال Neanderthals، شكّك باحثون آخرون في انتماء الجمجمة إلى نوعٍ جديد؛ لكنَّهم يشتبهون بأنَّ للجمجمة الكبيرة المكتشفة هويةً مثيرةً بالقدر نفسه، فهم يعتقدون أنَّها قد تكون الجمجمة الّتي طال انتظارها للنوع المسمّى دينيسوفان Denisova، وهو النوع الّذي نعلم بوجوده من تحليلِ حمض نووي مستخرجٍ من بقايا عظام أصابع وأسنان وجزء من جمجمة مكتشفة في سيبيريا، وإن لم يعثر على جمجمة له حتى اليوم.
ولكن؛ مع عدم معرفة العلماء بالطّبقة التي عُثِر على الجمجمة فيها، كيف استطاعوا تحديد عمرها؟
للإجابة عن هذا السّؤال الصّعب، تعاونت مجموعةٌ واسعةٌ من الباحثين من مختلف البلدان لتحديد تاريخ الجمجمة.
بدايةً؛ عثروا ضمن تجاويف أنف الجمجمة على رواسب تحتوي عناصر كيميائيَّة تسمى بالنظائر، وهنا استفاد الباحثون من عثورهم على نظائر "السترونتيوم strontium" واليورانيوم Uranium.
والنظائر عمومًا كانت مفيدة لغرضين، أولهما؛ أفادت في تحليل نصف عمر تفكك هذه النظائر، باختصار المدة الّتي تستغرقها لتتحول من شكلٍ إلى آخر، يمكن تقدير عمر الجمجمة، وهكذا أعطى الباحثون عمرًا أدنى للجمجمة يبلغ 146000 عامًا.
وثانيهما؛ أفادت في إيجادهم رواسب مشابهة في منطقة محددة حول الجسر الّذي كان يعمل على بنائه الشّخص الّذي عثر على الجمجمة، والّتي يرجع تاريخها إلى ما بين 138000 و 309000 عام.
بعدها سعى العلماء إلى معرفة النوع الّذي تنتمي إليه الجمجمة؛ إنسان عاقل أم نياندرتال أم حتى دينيسوفان؟
حاول الباحثون التَّعرف إلى النوع الذي تنتمي إليه الجمجمة، وقد وقعوا في حيرةٍ من أمرهم في البداية؛ إذ كان لدى الجمجمة الضخمة دماغ يقارب حجمَ دماغ الإنسان الحديث، لكن لا يمكن أن تكون جمجمة فردٍ من الإنسان العاقل لأنَّها تحتوي على محاجر عين مربعة تقريبًا، وفمًا عريضًا، وضرسًا ضخمًا، وحواف الحاجبين سميكة.
و قد استُخدِمت طرائق إحصائيَّة حسابيَّة لبناء مجموعة بيانات تضمُّ أكثرَ من 600 سمة من الجمجمة وتحليلها، مثل قياسات أبعادها وحجم الحاجب، إضافةً إلى وجود أو عدم وجود سمات مثل ضرس العقل، وأظهرت نتيجة البحث انتماءَ الجمجمة الجديدة إلى مجموعة تضمُّ عدة جماجم من العصر البليستوسيني الأوسط في الصّين China’s Middle Pleistocene، وهي الفترة ما بين 789.000 و130,000 سنة مضت عندما وجدت العديد من سلالات أشباه البشر.
وشابهت الأضراس الموجودة في الجمجمة الجديدة تلك الموجودة في عظم فكٍ ينتمي لجمجمةِ نوع دينيسوفان مكتشفة سابقًا في كهف Xiahe على هضبة التبت، مما قد يعني أنَّ هذه الجمجمة قد تكون جمجمة نوع دينيسوفان.
وعلى الرّغم من أنَّ الباحثين الآخرين مندهشون من حجم الجمجمة واكتمالها، إلّا أنَّ العديد منهم انتقدوا التَّحليل، وتسألوا عن الآليَّة التي أُثبِتَ من خلالها أنَّ الجمجمةَ مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بعظم الفك Xiahe، لأنَّه لا توجد سمات متداخلة للمقارنة، فالجمجمة لا تحتوي على عظم فك، كما تكشف دراسات الحمض النووي أنَّ البشرَ المعاصرين أكثر ارتباطًا بالنياندرتال من دينيسوفان، إذا كان عظم الفك Xiahe بالفعل من إنسان دينيسوفان، فمن المحتمل أن يكون أقرب قريب للجمجمة الجديدة هو إنسان نياندرتال، وليس إنسانًا عاقلًا؛ لذا عدَّ الباحثون أنَّه من السابق لأوانه تسميّة نوع جديد، خصوصًا أنَّ الأحفورة لا تحتوي على سياقٍ جيولوجي، ويوجد تناقضات في مجموعةِ البيانات.
في الوقت الحالي؛ يقول العاملون على البحث ومؤلفو الورقة البحثيَّة إنَّهم لا يريدون المخاطرة بتدمير الأسنان أو العظام الأخرى للحصول على الحمض النووي أو البروتين. وما يزال الباحثون الآخرون يأملون أن يحدث هذا العمل قريبًا. (1,2)
القصة الثّانية: الإنسان العاقل تطوَّر في بلاد الشام
وفي بحثٍ موازٍ في بلاد الشام، كشفَ عن أحافير بشريَّة قديمة يرجع تاريخها إلى 140.000 أو 120.000 سنة مضت، وتشير إلى وجودِ مجموعة غير معترف بها سابقًا من أشباه البشر “Nesher Ramla Homo" تمثّل آخر المجموعات الباقية على قيد الحياة من إنسان العصر الجليدي الأوسط Middle Pleistocene Homo في أوربا وجنوب غرب آسيا وإفريقيا.
وقد كشفت التَّحليلات النوعيَّة والكميَّة الشّاملة للعظام الجداريَّة والفك السفلي والضرس الثّاني لـ “Nesher Ramla Homo" أنَّ هذه المجموعة تقدم مزيجًا مميزًا من السّمات القديمة والإنسان البدائي، كما أظهرت أنَّ هؤلاء البشر قد أتقنوا تمامًا استخدام الأدوات الّتي كانت حتى وقت قريب فقط مرتبطةً إمّا بالإنسان العاقل وإمّا بالإنسان البدائي.
توفر هذه النتائج دعمًا أثريًا للتّفاعلات الثّقافيَّة بين السلالات البشريَّة المختلفة خلال العصر الحجري القديم الأوسط؛ مما يشير إلى أنَّ الاختلاط بين إنسان العصر الجليدي الأوسط Middle Pleistocene Homo والإنسان العاقل H. sapien قد حدث بالفعل بحلول هذا الوقت، وقد اقترحَ أنَّ هذه العينات تمثّل الناجين المتأخرين من العصر البليستوسيني المتوسط الشامي Levantine Middle Pleistocene الّذي كان على الأرجح مساهمًا في تطوّر Middle Pleistocene Homo في أوربا وشرق آسيا. (3)
المصادر:
2-Ji Q, Wu W, Ji Y, Li Q, Ni X. Late Middle Pleistocene Harbin cranium represents a new Homo species. The Innovation [Internet]. 2021 [cited 28 June 2021];(100132). Available from: هنا00057-6
3-Hershkovitz I, May H, Sarig R, Pokhojaev A, Grimaud-Hervé D, Bruner E et al. A Middle Pleistocene Homo from Nesher Ramla, Israel. Science. 2021;372(6549):1424-1428.
DOI: 10.1126/science.abh3169