الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع
لماذا نرى شعوب الأعراق الأخرى متشابهين؟
اندلعت الاحتجاجات بشراسةٍ عام 2015 عندما اعتدى ضابط شرطة أبيض في مدينة نيويورك على نجم التنس الشهير جيمس بليك (James Blake) في أثناء اعتقاله بالخطأ.
وبرر الشرطي فعلته بأنَّه لم يستطع تحديد هوية بليك، واعتقد أنَّه رجل أسود آخر يُشتبه في تزويره بطاقات الائتمان، وقد يقول بعضهم إنَّ هذا تعصبٌ وحُكمٌ مسبق على أصحاب البشرة الملونة، وإنَّ عدم تمييز الشرطي للوجوه عنصريةٌ محضة؛ ولكن، يبدو أنَّ في ادعائه جزءًا من الحقيقية بأنَّ الأمر قد اختلط عليه، فبحسب الباحثين واعتمادًا على عقود من البحث في موضوع تمييز الوجوه وعلاقتها باختلاف الأعراق، فإنَّ هناك تفسيرًا آخر لظاهرة عدم القدرة على تمييز وجوه الأعراق المختلفة عنا (1).
تشير دراسات عديدة إلى أنَّ البشر يميلون إلى تمييز وجوه الأشخاص الذين ينتمون إلى العِرق نفسه على نحو أكثر دقة من تمييزهم لوجوه الأفراد الذين ينتمون إلى أعراق أخرى، ويحدث مثل هذا التأثير الذي يُدعى تأثير العِرق الآخر (The Other-Race Effect) في أثناء تمييز الوجوه، ويمكن تلخيصه في العبارة التي يرددها كثير من الناس -والتي قد تبدو دالة على عنصرية ظاهريًّا- ألا وهي: "يبدون جميعهم متشابهين بالنسبة إلي"، ومثل هذه العبارة تشير إلى أنَّ قدرتنا على إدراك الهوية الفريدة التي تتمتع بها وجوه أناسٍ من عِرق آخر محدودةٌ مقارنة بقدرتنا على إدراك الهوية الفريدة للوجوه الخاصة بالعِرق الذي ننتمي إليه (2).
وعلى الرغم من وجود أحكام اجتماعية مسبقة من شأنها أن تؤثر في قدرتنا على تمييز وجوه الأعراق الأخرى، تبقى العوامل الإدراكية السببَ الرئيس والأول لحدوث تأثير العِرق الآخر لدى البشر، وتبدأ مثل هذه العوامل بالظهور في وقت مبكر من الطفولة، وتنشأ التجارب بكمها ونوعها وهي التي نخوضها في تمييز الوجوه التي نراها من مختلف الأعراق، ويمكن قياس تأثير العِرق الآخر لدى البشر بقياسه على الأطفال الرضع؛ إذ يمكن رصد انخفاض في القدرة على تمييز التفاوتات في وجوه الأعراق المختلفة بمجرد أن تتراوح أعمار الأطفال ما بين 3-9 أشهر (3).
في هذا الصدد، أجريت دراسةٌ على ثلاث عينات من الأطفال: أطفال بعمر 3 أشهر، وآخرون يبلغون من العمر 6 أشهر، وآخرون بعمر 9 أشهر، وكان الغرض من الدراسة توضيح أثر الخبرة والممارسة في تنمية عملية التعرُّف إلى الوجوه في أثناء الأشهر الأولى من حياة الإنسان، وجرى في هذه التجربة تقييم لقدرة الأطفال من العِرق القوقازي على تمييز الوجوه ضمن العِرق نفسه (القوقازي)، وثلاث فئات أخرى من أعراق مختلفة (الإفريقي والشرق أوسطي والصيني)، وقد حقَّق القائمون على الدراسة في طريقة تأثير الوجوه المألوفة في تطور نظام معالجة الوجوه في السنة الأولى من حياة الطفل، وقد أظهر الأطفال الذين يبلغون 3 أشهر بأنَّهم يميزون العِرق في مختلف الظروف، بينما استطاع الأطفال ذوو الستة أشهر تمييز الوجوه التي تنتمي للعرقين القوقازي والصيني فحسب، في حين لم يميز الأطفال الذين يبلغون من العمر 9 أشهر إلا وجوه العِرق الذي ينتمون إليه فحسب (القوقازي)، ويشير مثل هذا النمط من التمييز إلى أنَّ تأثير العِرق الآخر يبدأ بالظهور في عمر الستة أشهر، ويتبلور في عمر التسعة أشهر، وإنَّ مثل هذه النتائج تشير إلى أنَّ الوجوه التي يتعرض لرؤيتها الطفل تُؤدي دورًا محوريًّا في تشكيل نظامٍ لمعالجة الوجوه في وقت مبكر من الطفولة؛ ممَّا يتمخض عن تفاوتٍ في دقة تمييز الوجوه التي تنتمي إلى أعراق مختلفة في مرحلة البلوغ (3).
وهكذا رأينا كيف يتزامن حدوث ذلك الانخفاض في القدرة على إدراك وجوه العِرق الآخر لدى البشر، والأطفال تحديدًا، مع تحقيقهم لنتائج مذهلة في تمييز وجوه الأشخاص الذين ينتمون للعِرق نفسه، ولهذا يرجح كثيرٌ من الأشخاص أن يكون مثل هذا العجز في إدراك وجوه الأعراق الأخرى نتيجةَ عمليات في الجهاز العصبي تساعدنا في تدقيق السمات المميزة التي تبدأ منذ مراحل الطفولة المبكرة، وتحدث لمختلف الوجوه التي نصادفها غالبًا، والتي تكون منتميةً إلى عِرق واحد عادةً، ويشكِّل مثل هذا التحفيز عامل تصفية إدراكي يحد من نوعية التمثيل الذهني الذي يمكن ربطه بالوجوه التي لا تنطبق عليها مثل هذه السمات، ويمكن تفسيرها ببساطة بأنَّ الأنموذج الأولي الذي يحفظه كل شخص يمثِّل الوسطي عن الوجوه التي شفَّرها الشخص جميعًا، ومن ثمَّ يستطيع تمييز ما ينتمي لهذا الأنموذج، ولكن، من المحتمل أن تختلف الأبعاد المستخدمة للتمييز بين الأفراد أنفسهم، وربما تختلف للفرد نفسه مع مرور الوقت؛ أي أن يتكيَّف الأنموذج الأولي ويتحدَّث مع ملاحظة مزيد من الوجوه داخل البيئة التي يعيش فيها الفرد (3)، ويعني ذلك أنَّ تاريخ الوجوه الذي يحفظه الشخص يكون فيه عدد كبير من الوجوه وهم العِرق الغالب في بيئته، وربما عدد أقل من الوجوه وهم عِرق آخر أيضًا (4).
قد يبدو موضوع تمييز الوجوه غير ذي أهمية أو لا يؤثر فينا سلبًا؛ إذ يؤدي تأثير العِرق الآخر دورًا محوريًّا في التحقيقات الجنائية، يكمن في حقيقة أنَّ فشل شهود العيان في التعرف إلى الهوية أو اختلاط الهوية عليهم يُعدُّ من الإدانات الخاطئة، وعليه فإنَّ هذا يشكِّل تحديًا خطيرًا لنظام العدالة الجنائية.
المصادر: