الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الأخلاق وعلم الجمال
هل يجب على الفن أن يحمل رسالة أخلاقية؟! أفلاطون وكانط يجيبان
يقوم الرابط الأساس بين علم الجمال والأخلاق على اهتمام كل منهما بالنواحي المرتبطة بالحكم البشري؛ فعلم الجمال يُعنى بالاستجابات العاطفية التي يظهرها الفرد تجاه التجارب الحسية التي يمر بها، بينما تهتم الأخلاق بالأحكام المتعلقة بالتفاعل بين البشر، وبالتفاعل بين البشر والموجودات الأخرى من حولنا (1)، يقودنا هذا الارتباط إلى طرح السؤال الآتي: هل كل ما هو جميل خيرٌ بالضرورة؟ لقد كان هذا السؤال محط اهتمام عديدٍ من الفلاسفة عبر الزمن، وسنستعرض في هذا المقال رؤية كل من أفلاطون وكانط لهذه العلاقة بين الخير والجمال.
رؤية أفلاطون للخير والجمال:
تماهى علم الجمال لدى أفلاطون (347 ق.م.– 427 ق.م. Plato) مع الأخلاق؛ ففي نظريته (المُثُل) يحصر الخير المطلق بالجمال المطلق، ويولي اهتمامًا بالغًا بالتشابه بينهما على حساب الاختلاف، وهذا التشابه بينهما قائم على الأساس المشترك وهو القياس في رأيه، فبالنسبة إلى أفلاطون إنَّ الجمال المطلق الذي يحتل الدرجة الأولى من سلم الحب -كما ورد في كتابه (المأدبة Symposium)- ليس إلا اسمًا آخر لفكرة الخير. ويدعونا في كتابه (هيبياس الأكبر Hippias Major) إلى عدم فصل الخير عن الجمال كما لا يفصل الأب عن ابنه (2).
وبناء على رؤيته تلك، ينتقد أفلاطون الفن المُحتكم إلى الشعور فحسب؛ لأنَّ الفن غير المرتبط بالأخلاق هو -برأيه- أدنى مرتبة حتى من وجهة نظر جمالية؛ فالشعر الذي يحتكم إلى الطبيعة غير العاقلة شعرٌ قبيح.
ويذهب أفلاطون إلى عدِّ كلٍّ من الجمال والفضيلة سببًا لوجود الآخر، ومن يريد أن يصبح موسيقيًّا -مثلًا- عليه أن يدرك الأشكال الأساسية للفضائل (3).
يركز أفلاطون من ناحية أخرى على أنَّ كلًّا من الجمال والخير له من الصفات ما للآخر؛ أي إذا كان الخير ينطوي على التناسب والتناظر والنظام، يجب أن تكون هذه الصفات موجودة في كل ما هو جميل (3).
سادت هذه الفكرة إلى حد ما في كتابات عديد من المفكرين؛ (فأرسطو Aristotle) -مثلًا- يتحدث في كتابه (فن الشعر Poetics) عن أنَّ الجمال يتمثَّل في الحجم والانتظام، والفكرة الرئيسة في نظريته الأخلاقية هي أنَّ الحياة الخيِّرة هي الحياة المتناغمة والمعتدلة والمنتظمة، وكذلك يؤكد (أوغست كونت Auguste Comte) على أنَّ الحجم والانتظام السمتان الأساسيتان للجمال، وأما (شيلر Schiller) فيرى أنَّ "الروح الجمالية النقية هي الروح التي تجسد نفسها بهدوء وانسجام"، وهي التي تتصف باللين والوقار، وكذلك يناقش (غويو Guyau) صفات الحركة الجمالية والجانب الأخلاقي في هذه الصفات (3).
ومن المهم هنا أن نذكر الاعتراض الأبرز على نظرية أفلاطون في علاقة الخير بالجمال، والذي يقوم على فكرة أنَّ إخضاع الفن للقوانين يعرقل الإبداع، وأنَّ الفنان يجب أن يعبِّر عن نفسه دون قيود، وبالتأكيد بالنظر إلى أنَّ آراء أفلاطون الجمالية ذات غايات أخلاقية وليست أستطيقية لتتناسب مع الدولة المثالية التي وضعها أفلاطون (3).
وإلى جانب أفلاطون يعدُّ كانط من أهم الفلاسفة الذين تحدثوا عن وجود رابط بين الفضيلة والجمال، وأكدوا على التشابه بين الحكم الجمالي والحكم الأخلاقي، فكيف يعبر كانط عن هذه العلاقة؟
رؤية كانط للخير والجمال:
من الضروري هنا أن نتطرق إلى طبيعة الحكم الجمالي عند كانط (1804- 1724 Immanuel Kant)، فبالنسبة إليه يمتاز بعدة صفات أساسية:
- الحكم الجمالي عنده منزَّه عن الغاية؛ أي أنَّ حكمنا على أمر ما بأنَّه جميل هو ما يمنحنا المتعة واللذة وليس العكس، فلا نطلق عليه حكم الجمال لأنَّه ممتع.
- يخضع الحكم الجمالي عند كانط للحس السليم؛ أي إنَّنا عند وصفنا لشيء ما بأنَّه جميل فإنَّنا نتوقع موافقة الآخرين لنا، وتكون الأحكام الجمالية بذلك كونية وضرورية.
- يصف كانط الأشياء الجميلة بأنَّها "غائية دون غاية"؛ أي إنَّها تؤثر فينا كما لو أنَّ لها هدفًا وُجِدت من أجله، على الرغم من عدم إيجاد هدف محدد لها (4).
بالعودة إلى العلاقة بين علم الجمال والأخلاق، يرتبط علم الجمال بالنسبة إلى كانط بالأسئلة الأخلاقية والميتافيزيقية، فلا يعدُّه مشكلة فلسفية منعزلة، بل يوضح أنَّ الجمال هو رمز الفضيلة، وفي ذلك يطرح أربع نقاط رئيسة:
- كلاهما (أي الجمال والفضيلة) يدركان على نحو مباشر وليس على شكل نتيجة.
- كلاهما منزه عن الغرض والغاية.
- كلاهما ينطوي على فكرة الامتثال؛ فمفهوم الجمال يمتثل للخيال، والأخلاق تمتثل للإرادة.
- كلاهما تأسس على مبدأ كوني (4)؛ فالاستمتاع بالطبيعة عنده دلالةٌ على الروح الخيِّرة، ويظهر إعجابنا بمظاهر الطبيعة -كالغروب مثلًا- تآلفًا وانسجامًا بيننا وبين العالم من حولنا (5).
وتكمن أهمية هذا الطرح في أمرين؛ أولهما أنَّ كانط يعطي ركيزةً لارتباط الذوق بالفضيلة وتعزيزه لها، وثانيهما أنَّ هذه العلاقة بين الجمال والأخلاق جزءٌ من العلاقة الأساسية بين علم الجمال عمومًا ومفاهيم العقل المحض (الأفكار) (4).
إذًا، بسبب التشابه بين الحكم الجمالي والحكم الأخلاقي يمكن للتجربة الجمالية أن تعدُّ بمثابة رمز للحكم الأخلاقي، ويتركز هذا التشابه في العلاقة بين السعادة والعمليات المعرفية التي تنتجها، ويرى كانط أنَّ الفن يحتاج إلى الفضيلة ليحافظ على صلاحه، ويشير إلى أنَّ أهمية الذوق الجمالي تكمن في قدرته على تقديم صورة عن الأفكار الأخلاقية (6).
ويُعدُّ أفلاطون وكانط من أبرز الفلاسفة الذين بحثوا في جدلية العلاقة بين الخير والجمال، فقد كانت هذه المسألة محط اهتمام الفلاسفة عبر التاريخ وما تزال إلى هذه اللحظة محط جدل واسع.
المصادر: