الجغرافيا البشرية والعلوم الإقليمية > الجغرافيا السياسية
الذكاء الصنعي؛ أداة في يد السلطات الحاكمة
حقَّق الباحثون إنجازات رئيسية في تطوير الذكاء الصنعي وتقنيات الحوسبة الكمومية والبيانات الكبيرة وإنترنت الأشياء والروبوتات، ومنذ الحرب العالمية الثانية على الأقل، استُخدمت الأنظمة ذات التحكُّم الذاتي في التكنولوجيا العسكرية جزئيًّا، وقد مثَّلت التطورات الحديثة في التعلُّم الآلي والذكاء الصنعي نقطة تحول أساسية في استخدام الحلول المعرفية والأتمتة لتعزيز الوعي بميدان المعركة؛ فقد يُحدث الذكاء الصنعي تغييرات جوهرية في القوة العسكرية وإعادة ترتيب ميزان القوى، وستتأثر المنافسة الجيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة بالسباق لتطوير قدرات الذكاء الصنعي (1).
ومن هنا نجد أنَّ قادة العالم قد سارعوا إلى إدراك إمكانات الذكاء الصنعي بوصفه عنصرًا حاسمًا في الأمن القومي، فعلى سبيل المثال؛ أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية في العام 2016م "الخطة الإستراتيجية الوطنية لتطوير البحث والذكاء الصنعي" وهي واحدة من سلسلة من الدراسات التي تتناول التعلُّم الآلي للذكاء الصنعي وقدرة الذكاء الصنعي على تنشيط الهيمنة العسكرية الأمريكية، وأنشأت وزارة الدفاع أيضًا وحدة ابتكارات الدفاع التجريبية لتعزيز التعاون الوثيق بين البنتاغون ووادي السيليكون (1)، وهو منطقة في شمال كاليفورنيا يوجد بها العديد من الشركات التي تصنع أو تستخدم مواد الكمبيوتر والأجهزة الإلكترونية (2).
أما الصين فقد أطلقت في بكين أجندة ابتكار الذكاء الصنعي على المستوى الوطني من أجل "الاندماج المدني العسكري" في سعيها لتصبح قوة عظمى في العلوم والتكنولوجيا، في حين تسعى روسيا إلى جعل ثلاثين بالمئة من هيكل قوتها العسكرية آليًّا بالكامل بحلول العام 2025م (1).
وبوصفه عاملًا ممكنًا ومضاعِفًا لقوة مجموعة واسعة من القدرات العسكرية، يمكن للذكاء الصنعي إعادة تعريف وتحويل الحالة الراهنة في تكنولوجيا الاستخدام العسكري وإنشاء إستراتيجيات لا يمكن التنبؤ بها، ومن المحتمل أن تكون مزعزِعة للاستقرار، وحتى لو كانت الأسلحة والأنظمة المعزَّزة بالذكاء الصنعي غير قادرة على اتخاذ قرارات أفضل من البشر، لكنَّ الجيوش التي تستخدم الذكاء الصنعي ستكتسب بالتأكيد مزايا كبيرة في ساحة المعركة بالمقارنة مع الجيوش التي تعتمد على الحكم البشري وحده، وخصوصًا في الأماكن التي تتطلب اتخاذ قرارات دائمة وسريعة عبر مناطق القتال المتعدِّدة (1).
وبالحديث عن الذكاء الصنعي لا يمكن ألَّا نتطرق إلى الروبوتات التي يطوِّرها الإنسان، والتي تُعد جهات فاعلة تؤمِّن وتعيد بناء طابع التعايش البشري وتدمِّره في بعض الأحيان؛ إذ لا تُعد أدوات ثانوية ولكنها وسائل فاعلة وقادرة على إعادة برمجة التعايش البشري (3).
ومن المرجَّح أن يحتل الذكاء الآلي دورًا مركزيًّا في الأزمات والصراعات في النظام العالمي المستقبلي، وبذلك تتجاوز الجغرافيا السياسية الإنسان وتنتقل من أنموذج ذاتي للقوة إلى دمج رؤى من السياسة التقنية التي تمثِّل الأشكال الهجينة للسلطة التي تتضمن الأنظمة والممارسات التكنولوجية (3).
وعلى الرغم من أنَّ الذكاء الصنعي يوفِّر إمكانات كبيرة للحكومات في كل مكان، لكنَّه يقدِّم عددًا من الفوائد الخاصة للأنظمة الاستبدادية وغير الليبرالية التي تحتفظ بالسلطة عن طريق مزيجٍ من الإكراه؛ بالتهديد والترهيب للمنافسين المحتملين، والاستقطاب؛ بالرشوة أو حثِّ الأطراف السياسية على الانضمام إلى الائتلاف الحاكم. ولمَّا كانت هذه الأنظمة تعتمد بازدياد على الشرطة أو الجنود للقيام بهذه الأعمال؛ فإنها تصبح أيضًا أكثر عرضة للضغط أو التمرُّد من تلك الجهات نفسها، ويواجه القادة خيارًا محفوفًا بالمخاطر يفاضل بين فوائد نشر قوات الأمن لسحق التحديات من الخارج والتهديد المحتمل الذي تشكِّله هذه القوات نفسها من الداخل (4).
وهنا تكمن مزايا تقنية الذكاء الصنعي؛ فبدلًا من الاعتماد على بنية تحتية كثيفة لقوة الأمن لتمكين المراقبة واسعة النطاق والمضايقات وترهيب المعارضين في جميع أنحاء الدولة، يمكن للقادة الاستبداديين استخدام الذكاء الصنعي لتنمية قدرة القمع الرقمي بتكلفةٍ أقل. وتعتمد عمليات المراقبة الأكثر تقدُّمًا على عددٍ قليلٍ نسبيًّا من العوامل البشرية؛ إذ تُشغَّل العديد من الوظائف عن طريق أنظمة الذكاء الصنعي التي يمكن أن تغطي شبكة أوسع بكثير، ممَّا يؤمن إحداث تغييرات في السلوك وخلق تأثير مخيف ومهم؛ فإن علم المواطنون أنَّ الروبوتات تراقب جميع الاتصالات وأنَّ الخوارزميات ستلتقط الرسائل المخالفة وتبلِّغ السلطات عنها، سيتشكَّل لديهم دافع قوي للطاعة، وهذا ما يميز قمع الذكاء الصنعي الذي يتطلَّب جهات فاعلة بشرية أقل بكثير من القمع التقليدي وينطوي على قدرٍ أقل من المضايقات الجسدية وبتكلفةٍ أقل (4).
وحتى ما قبل بداية القمع الرقمي، كان مشهد الاستبداد المعاصر يتغير بطرائق جديرة بالملاحظة؛ أولًا بتسارع تآكل المؤسَّسات والمعايير الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، وثانيًا بالتغيير في الطريقة التي يخرج بها المستبدون من السلطة، فلمَّا كانت الانقلابات تمثِّل الطريقة التي يترك بها الحكَّام مناصبهم، أصبحت الثورات الشعبية والهزيمة في الانتخابات بعد الحرب الباردة من أكثر الطرائق شيوعًا، وهنا توفِّر تقنية الذكاء الصنعي ميزة مهمة؛ إذ يتبنَّى القادة الاستبداديون التكتيكات الرقمية لرصد ومراقبة ومضايقة حركات المجتمع المدني وتشويه الانتخابات، وفي هذا السياق تبرز أهمية الذكاء الصنعي عن طريق ثلاث نقاط هي:
1. مراقبة السخط الشعبي والسيطرة على الاحتجاجات الجماهيرية.
2. مراقبة المقاطعات المضطربة.
3. استخدام المعلومات المضلِّلة لنزع الشرعية من المعارضين (4).
ومن كل هذا نجد أنَّ تأثير الذكاء الصنعي في الجغرافيا السياسية يتزايد بتسارع كبير، فإلى أية درجة ستستمرُّ السلطات الحاكمة في استغلاله؟ وهل سيؤدي ذلك إلى تغيير موازين القوى بالفعل؟
المصادر: