الإنسانية في الفن؛ هل كان لعلم التشريح دور في ذلك؟

لطالما ارتبط علم التشريح بالفنون، إذ يُعدّ علم التشريح من أقدم العلوم الطبية، وقد ساهم الفنانون وعلماء التشريح معاً بفحص الجثث ونقل المعرفة بمكونات الجسم البشري، فأنتج الفنانون أعمالاً جمعت بين المعرفة الطبية والرؤية الفنية، صوّرت مواقف دينية أو أحداثاً عاشوها. كُشف عن الثقافة التشريحية في الفن من خلال اللوحات والمنحوتات المنتشرة في بقاع الأرض، إضافةً إلى الكتب المصورة الثمينة والمنشورات ذات الإنتاج الضخم (1).

اكتُشفت معظم المعارف التشريحية المبكرة بسبب أسئلة دينية أو فلسفية، إذ شرّح البابليون الحيوانات من أجل التنبؤ على ما توقعوا أن يجدوه في الأعضاء الداخلية، كذلك استعمل الإغريق علم التشريح للتفكير في موقع الروح في الجسد البشري، وفي القرن الثاني الميلادي هيمنت دراسات الطبيب اليونانيّ المولد جالينوس (Galen) على الطب الأوروبي مئات السنين.

على الرغم من حظر تشريح الإنسان في الإمبراطورية الرومانية، وبدلاً من ذلك، قضى معظم حياته العملية بتشريح القردة البربرية المحلية (The Local Barbary Apes)، وهي فصيلة كانت تُعدّ "أشبه بالإنسان". 

من ثم تجدد الاهتمام بالمعرفة التشريحية في عصر النهضة الأوروبية، فأعيد اكتشاف عدة نصوص يونانية ورومانية كلاسيكية، مبكرة. ومن خلال الممارسة العملية اكتشف فيساليوس (Vesalius) جوانباً غير دقيقة في هذه النصوص كانت على نحوٍ أساسيّ نتيجة اعتماد جالينوس على تشريح الحيوانات في أوصافه للتشريح البشري، وأنتج فيساليوس كتاباً تشريحياً عن الجسم البشري نُشر عام 1543م (1).

 "أن تكون فناناً في خلال عصر النهضة يعني أن تكون عالماً بالتشريح"، عندما اتجه فنانون أوروبيون مثل مايكل أنجلو (Michelangelo) نحو تصويرٍ أكثر واقعيةً لجسم الإنسان، احتاجوا إلى فهم أعمق لكيفية عمل هياكل الجسم معًا وليس سطح الجسم فقط، كانت العضلات والعظام مثلما تظهر من خلال الجلد موضع اهتمام أيضًا. لأسباب مماثلة، أجرى ليوناردو دافنشي (Leonardo da Vinci) تشريحه الخاص على جثث الحيوانات والبشر، وأنتج عدة رسومات بناءً على مشاهداته، ربما كان الغرض منها نصًا تشريحيًا خاصًا به. اعتمد فنانو عصر النهضة على الدقة النسبية اليونانية والرومانية في الهندسة المعمارية والصحة التشريحية في الجسم إضافةً إلى مشاهداتهم، وكانت النتيجة ابتكار تركيبات قوية متناغمة ومتماسكة مع الشكل الكلي للجسد (1,2).

في الوقت المبكر من عصر النهضة ولد الفنان الشهير ساندرو بوتيتشيلي (Sandro Botticelli) في فلورنسا-إيطاليا، الذي تأثر أسلوبه بأستاذته بالتركيز على الجسم البشري. كُلف بوتيتشيلي بعمل لوحتين "ولادة فينوس" و"بريمافيرا" (3).

لوحة بريمافيرا (Primavera):

تمثل بريمافيرا وصول الربيع والاحتفال به. تظهر فينوس -إلهة الحب- وسط بستان برتقال، على مرج مزين بالورود، فوق رأسها ابنها معصوب العينين، يطلق سهام الحب (4).

لوحة ولادة فينوس (The Birth of Venus):

علقت لوحة ولادة فينوس مع بريمافيرا في فيلا ميديشي الريفية في كاستيلو. كان بوتيتشيلي مخالفاً لمعاصريه مثل ليوناردو دافنشي، إذ اختار التعمق أكثر في الماضي في موضوعه في لوحة "ولادة فينوس". بينما كان دافنشي مصدرًا للتقليد المسيحي في فنه، استغل بوتيتشيلي الأساطير اليونانية القديمة، لكن بوتيتشيلي لم يكن يعطي وزنا وحجماً لشخصياته من ناحية المنظور، فوضعيتها ووزنها لا يمكّنانها في هذه الصورة من الناحية التشريحية من الوقوف، فمن الواضح أن الصورة كانت من محض الخيال.

سرعان ما ظهر أساتذة جدد مثل ليوناردو دافنشي وألقوا بظلالهم على أعماله. في ذلك الوقت من عصر النهضة، كانت أعمال لفنانين مثل مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي قد وضعت أعمال بوتيتشيلي على الهامش، وعلى الرغم من ذلك، استغرق العالم أكثر من أربعمائة عام لتقدير عمله تقديراً كاملاً، فعلى ما يبدو أن الفن مثل النبيذ، يتحسن مع مرور الزمن (5,3).

عاش ليوناردو دافنشي بين عامي 1452-1519م، وهو بلا شك أهم فنان تشريح في كل العصور، أجرى أولاً سلسلة من الدراسات التفصيلية للجمجمة البشرية، مستعيرًا من أسلوب المهندس المعماري الصارم في تمثيل الأشكال ثلاثية الأبعاد في المخطط والمقطع والارتفاع (6).

مثل لوحة الرجل الفيتروفي، يصوّر العمل المرسوم بالقلم الجاف والحبر على الورق، شخصية ذكر في وضعين متراكبين مع فصل ذراعيه وساقيه والذي نُقش في نفس الوقت في دائرة ومربع. يُطلق على الرسم والنص أحيانًا اسم قانون نسب الإنسان. تقدم هذه الصورة مثالاً ممتازًا على اهتمام ليوناردو الشديد بالنسب، إضافة إلى ذلك، تمثل هذه الصورة حجر الزاوية في محاولات ليوناردو ربط الإنسان بالطبيعة (7).

لوحة الرجل الفيتروفي (Vitruvian Man):

كَتبت مؤرخة الفن هيلين جاردنر عن ليوناردو دافنشي، "يبدو لنا أن عقله وشخصيته فوق طاقة البشر، بينما الرجل نفسه غامض وبعيد". عندما نشر جورجيو فاساري كتابه "حياة أفضل الرسامين والنحاتين والمهندسين المعماريين" 1550م، رُسّخ مثلاً أعلى ورُبط إلى الأبد بمفهوم الفنان العبقري ذو الموهبة الفطرية والاستثنائية (8).

عاصر مايكل أنجلو (Michelangelo) ليوناردو دافنشي، وعاش بين عامي 1475- 1564م، وأجرى عمليات تشريحية مفصلة في مراحل مختلفة من حياته المهنية الطويلة، ويُعدّ تمثال مايكل أنجلو لداود أو (David) نموذج الكمال في مجال النحت في كل العالم. لا يجسد داود لمايكل أنجلو جماليات فن عصر النهضة العالي والبراعة الفنية للنحت اليوناني فحسب، بل أصبح أيضًا أحد أكثر أعمال نحت عصر النهضة شهرةً، وأصبح رمزًا لكل من القوة والجمال البشري الشاب. مايكل أنجلو بالغ في حجم اليد اليمنى لداود، يظن بعضهم أنها إشارة إلى لقب داود التوراتي، الذي يعني "قويّ اليد" (9).

تمثال David

في عصر النهضة العالي (High Renaissance) المشار إليه في المدة من 1490-1527م، التي حددتها أعمال ليوناردو دافنشي، ومايكل أنجلو و Raffaello Sanzio da Urbino (المعروف باسم رافاييل). غذّت الإنسانية الإنجاز الفني للعصر، إذ تصور البابا يوليوس الثاني مدينة الفاتيكان مركزاً ثقافياً لأوروبا، مما يعكس أمجاد المسيحية وينافس روعة روما القديمة. راعي الفن الرائد، إذ كلف رافاييل برسم اللوحات الجدارية الدينية والكلاسيكية في مقر إقامته البابوي ومايكل أنجلو برسم كنيسة سيستين، والجمع بين المشاهد التوراتية والأشكال المأخوذة من الأساطير اليونانية (8).

من بين كل الصور الرائعة التي حشدت المجمع الهائل لسقف سيستين، فإن لوحة خلق آدم لمايكل أنجلو هي بلا شك أكثر الصور التي أثارت إعجاب الأجيال اللاحقة، إذ تعطي رؤية واحدة ساحقة عن سمو الله ونبل الإنسان في تاريخ الفن البصري بأكمله. يقف الرب  يمد سبابته على وشك أن يلمس سبابة آدم، الذي يتكئ على ساحل الأرض القاحل، بالكاد يستطيع رفع يده. الشكل الإلهي محدب، متفجر، أبوي؛ أما الإنسان فهو مقعر ومتقبل وعاجز بواضوح. غالبًا ما يوصف الاتصال الأولي الذي على وشك الحدوث بين إصبعي السبابة بأنه شرارة أو تيار، استعارة كهربائية حديثة لا شك أنها غريبة عن القرن السادس عشر، ولكنها طبيعية بدرجة كافية بالنظر إلى نهر الحياة الذي يبدو على وشك التدفق إليه الجثة المنتظرة (10).

 لوحة خلق آدم (The Creation of Adam)

تطور التنافس بين مايكل أنجلو وليوناردو، ابتداء من عام 1504م مع اللوحات الجدارية المتنافسة التي كُلفت على جدران قاعة الخمسمائة. كذلك كتب الناقد الفني جوناثان جونز عن مايكل أنجلو "لقد كان منافسًا شرسًا وكان بحاجة إلى التفوق على ليوناردو، لقد أصبحت مسابقة لا للمهارة، إذ إن كلاهما لا مثيل لهما، ولكن الخيال والأصالة لليوناردو، الفنان الأكبر، كان مشهورًا بالفعل ليس بوصفه رساماً موهوباً فقط بل بوصفه عقلاً أصيلاً حقًا". لسوء الحظ، لم تكتمل اللوحات الجدارية، إذ سُحب كلا الرجلين نحو لجان أخرى. ومع ذلك، استمرت الأعمال في التأثير في فنانين آخرين -ولا سيما رافاييل- استمروا في نسخ الروائع في محاولة لتعزيز ممارساتهم الفنية الخاصة (2).

كان رافاييل متقناً للمنظور والدقة التشريحية في لوحاته، ولا تزال لوحاته الجدارية التي تتميز بالألوان الواضحة موجودة في قصر الفاتيكان (11). 

تعود الأصول العملية لتشريح الجثة الحديث إلى عالم التشريح في عصر النهضة جيوفاني مورغاني (Giovanni Morgagni) الذي أنتج أول عمل رئيسي عن هذا الموضوع في عام 1761م (6).

قد تكون الأوتار والعضلات والهياكل العظمية علماً قائماً بذاته، ولكن لا شك أن اتصاله وثيق بالفن، خصوصاً عندما تتجول في إحدى قاعات قصر الفاتيكان أو كنيسة سانتا ماريا أو أحد المعالم الأثرية التي نسجها أعظم الفنانين منذ قرون وما زال سحرها يأخدنا إلى تلك العصور، لما فيها من الدقة والواقعية.

تدقيق لغوي: بشرى البعلي

المصادر: