نظرية التحول الديموغرافي (Demographic Transition)

على الرغم من أنَّ الديموغرافيا لغة الأرقام أكثر من كونها لغة النظريات؛ أنتج هذا العلم أحد أفضل التعميمات الموثقة في العلوم الاجتماعية وهي نظرية التحول الديموغرافي (1) التي تعكس تأثير الولادات والوفيَّات في كلٍّ من معدَّل النمو السكاني وتوزيع الفئات العمرية (2).

وتتَّسم هذه النظرية بالمراحل الأساسية الآتية:

1. مرحلة تقليدية تكون معدَّلات الولادات والوفيَّات فيها متوازنة ومرتفعة.

2. مرحلة انتقالية تنخفض فيها معدَّلات الوفيَّات وتكون معدَّلات الولادات ثابتة.

3. مرحلة انخفاض متوازن في معدَّلات كلٍّ من الوفيَّات والولادات.

4. مرحلة "عجز السكان" التي تشهد زيادةً في نسبة كبار السن نتيجة انخفاض كلٍّ من معدَّلات الولادات والوفيَّات وزيادة متوسِّط العمر المتوقَّع.

5. مرحلة انحدار تنخفض فيها معدَّلات الولادات وترتفع معدَّلات الوفيَّات بين فئة الشباب؛ بسبب الأمراض أو الحروب أو الهجرة، ممَّا يؤدي إلى انخفاض عدد السكان (3).

وضع نماذج هذه النظرية وارن تومبسون (Warren Thompson) عام 1929م، وقسَّم الدول تبعًا لنموها السكاني إلى 3 أنماط:

• النمط (أ) يضمُّ دول أوروبا الغربية والشمالية والولايات المتحدة، والتي كان من المتوقَّع -وفقًا لهذه النماذج- تباطؤ نموها السكاني وزيادة أعداد المسنين، لتصل في نهاية المطاف إلى تناقص في عدد السكان نتيجة انحدار كلٍّ من معدَّلات الولادات والوفيَّات.
• النمط (ب) يضمُّ دول أوروبا الشرقية والجنوبية، وهي الدول التي تعيش بالفعل معدَّلات ولادات ووفيَّات منخفضة، لكن كون معدَّلات الوفيَّات أعلى من معدَّلات الولادات يؤدي بالنتيجة إلى زيادة عدد السكان من فئة صغار السن، ثمَّ زيادة سريعة في عدد السكان لفترة قصيرة، ولكن مع تباطؤ معدَّلات الخصوبة سينخفض النمو السكاني لاحقًا ويؤدِّي في نهاية المطاف إلى تراجع عدد السكان.
• النمط (ج) يشمل النسبة الأكبر من سكان العالم والأكثر قابلية للنمو السكاني، وتتوازن بها معدَّلات الولادات والوفيَّات، لذلك تزداد فئة السكان من متوسطي الأعمار في هذه الدول.

ربط الباحثون بين هذا التحول وانخفاض أعداد الوفيَّات نتيجة السيطرة على الأمراض المعدية والوبائية من جهة والحداثة من جهة أخرى؛ إذ أصبح إنجاب الأطفال مكلفًا أكثر من ذي قبل، وحصلت المرأة على حريةٍ أكبر بخصوص قراراتها الإنجابية، فتغيَّرت ثقافة إنجاب عددٍ كبيرٍ من الأطفال وأدَّت إلى صغر حجم الأسر (1).

لكن يبقى السؤال عمَّا إذا كان التحول الديموغرافي يُحدِث نموًا اقتصاديًّا أم العكس؟

للإجابة عن هذا السؤال يجب توضيح بعض جوانب العلاقة بين النمو الاقتصادي والولادات والوفيات.

بدايةً، ما هو مؤكَّد أنَّ النمو الاقتصادي يقلِّل حالات وفاة الأطفال؛ إذ يتناسب ارتفاع دخل الفرد في دولة ما عكسًا مع عدد حالات الوفاة عند الأطفال في الدولة نفسها والعكس صحيح؛ إذ تؤدي بعض جوانب الاقتصاد السلبية كعدم المساواة والفساد إلى ازدياد معدَّل حدوث التشوهات بسبب عدم الكفاءة من جهة والتوزيع غير العادل للموارد من جهة أخرى (4).

إذًا اقتصاد منتعش يعني رعاية طبية أفضل وحالات وفاة أقل، لكن ماذا عن الولادات؟ وما الذي يمنع العائلات الغنية من إنجاب أعداد أكبر من الأطفال؟ وهل تقليل الإنجاب قد يؤدي بالضرورة إلى نمو اقتصادي؟

تنبَّأ أحد النماذج الديموغرافية الكلاسيكية بإمكانية وجود تأثير مباشر للنمو الاقتصادي في قرارات الإنجاب؛ إذ من الممكن أن يؤدي حصول النساء على رواتب مرتفعة إلى قضائهنَّ وقتًا أطول في العمل وأقل في الإنجاب ورعاية أبنائهن، أي يمكن القول أنَّ النمو الاقتصادي قد يؤدي أحيانًا إلى انخفاض معدَّلات الخصوبة (4).

واتَّفقت إحدى الدراسات التي أُجريت عام 1999م في السويد مع هذا التنبؤ؛ إذ ثبت أنَّ ما مقداره ثلث أسباب انخفاض الخصوبة يعود إلى زيادة الأجور، في حين يمكن تفسير الثلثين الآخرين عن طريق انخفاض معدلات وفيَّات الأطفال (1).

ولكن ما يترك باب الحسم في هذا الشأن موصدًا هو أنَّ الخصوبة ليست عاملًا وحيدًا مؤثرًا ومتأثرًا في النمو الاقتصادي؛ فالانخفاض في مستويات الخصوبة الذي شهدته أوروبا الغربية في الفترة الزمنية نفسها لم يؤدِّ إلى ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) في كلِّ الحالات، إذ كان نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي في إنكلترا وهولندا -على الرغم من معدلات الخصوبة العالية- أعلى بما لا يقل عن ألف دولار من ناتجي ألمانيا وفرنسا اللتين اختبرتا أدنى معدل خصوبة في العقد ذاته (5).

ولا بُدَّ من ذكر أنَّ بيانات الدول الاجتماعية والاقتصادية تختلف حاليًّا عمَّا كانت عليه منذ سنوات عدَّة، وستختلف حتمًا مع مرور الزمن ليأتي دور هذه النظرية الأساسي في وصف الدول والتنبؤ بشكلها وظروفها المستقبلية.

المصادر: