الجغرافيا البشرية والعلوم الإقليمية > الجغرافيا السياسية
هل ستتحارب الدول على الطاقات المتجددة في المستقبل؟
إذا كنَّا نريد منع الاحتباس الحراري من الارتفاع فوق 1.5 درجة مئوية، سيتوجَّب علينا إنتاج طاقة خالية من الانبعاثات بنسبة 80% من إجمالي الطاقات المنتجة بحلول العام 2030م و 100% بحلول العام 2050م، ويجب تحقيق قسمٍ كبيرٍ من ذلك عن طريق زيادة استخدام الطاقات المتجددة.
لقد كان هذا موضوع عديدٍ من الأبحاث المتزايدة والتي طرحت مجموعةً من الأسئلة المتعلقة بالنتائج الجيوسياسية للتحوُّل إلى الطاقات المتجددة؛ هل سيصبح العالم أكثر أمنًا إن اعتُمدت الطاقة المتجددة على نطاق واسع؟ هل يمكن أن يصبح نقل الكهرباء أحد أدوات السياسة الخارجية أو سلاحًا مشابهًا لكيفية استخدام موارد النفط والغاز؟ وهل ستعزِّز الدول الرائدة في الطاقات المتجددة مثل الصين والدنمارك وألمانيا موقعها على الساحة الدولية؟ وما مدى احتمالية حدوث رد فعل عنيف من تراجع الدول البترولية في أثناء المرحلة الانتقالية؟
قبل أن نتناول الموضوع بعمق، ربما من الضروري تعريف المصطلحات الرئيسية هنا وهي "الطاقة المتجددة" و"الجغرافيا السياسية"؛ الطاقة المتجددة هي الطاقة المستمدَّة عن طريق مصادر طبيعية تتجدَّد باستمرار كالشمس والرياح والكتلة الحيوية والطاقة الحرارية الأرضية (Geothermal) والطاقة المائية وطاقة المحيطات (المد والجزر) والوقود الحيوي وغيرها، أمَّا الجغرافيا السياسية فيكن تعريفها بأنها علاقة سببية بين الجغرافيا والعلاقات الدولية تستند على التنافس والتوسُّع الجغرافي والإستراتيجيات العسكرية للقوى الكبرى.
يرى قسمٌ من الباحثين أنَّ اعتماد العالم في معظم طاقته على مصادر متجددة لن يقلِّل من الصراعات التي نشهدها الآن في عصر الوقود الأحفوري؛ إذ يتوقعون أنَّ مصادر الطاقة المتجددة ستسبِّب أنواع النزاعات نفسها التي يسبِّبها الوقود الأحفوري، أو سيؤدي إلى نزاعات جديدة لكنَّها لا تقلُّ شِدّة، فمن وجهة نظر هؤلاء الباحثين؛ مصادر الطاقة المتجددة لا تتغير كثيرًا، وعلى سبيل المثال، إن حدث التحوُّل إلى مصادر الطاقة المتجددة واستمرَّ الاستهلاك المرتفع للطاقة؛ سيولِّد ذلك نقاط ضعف جديدة في أمن الطاقة مماثلة لتلك القديمة مثل انقطاع إمدادات الطاقة أو عدم الاستقرار الجيوسياسي في البلدان المنتجة لها.
في المقابل، يرى القسم الآخر من الباحثين أنَّ اعتماد العالم في معظم طاقته على مصادر متجددة سيقلِّل النزاعات والتوترات الجيوسياسية؛ إذ يؤكِّدون أنَّه من الصعب التحكم في الطاقة المتجدِّدة أو قطع إمدادها أو التلاعب بأسعارها مقارنةً مع الوقود الأحفوري، أي ستؤدي زيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة إلى زيادة الاكتفاء الذاتي من الطاقة والحد من النزاعات؛ إذ أنَّه سينقل التركيز من الإمدادات الخارجية إلى الإمدادات الداخلية للطاقة، ممَّا يقلِّل من مستوى النزاعات بين الدول، ويعتقد أصحاب هذا الرأي أنَّ الطاقات المتجدِّدة يصعب التلاعب بها أكثر من الوقود الأحفوري، فهي أقل تركُّزًا وتتوزَّع جغرافيًّا بتساوٍ أكثر (1).
ومن الجدير بالذكر أنَّ صناعة الطاقة النظيفة تلزمها مواد رئيسية تُسمَّى المواد الخام الحرجة (Critical materials) وهي المواد الرئيسية اللازمة لإنتاج الطاقة النظيفة والتي من المتوقع أن تمثِّل قلة توافرها تحدٍّ يواجه صناعة الطاقة النظيفة في السنوات القادمة، وتحتاجها بشدَّة التقنيات اللازمة لعمل عنفات الرياح والألواح الشمسية والسيارات الكهربائية والإضاءة الموفرة للطاقة، وتشمل بعض الفلزَّات الأرضية النادرة (Rare earth materials) التي تمتلك خصائص فيزيائية فريدة (2).
قد تزيد أنظمة الطاقة المتجددة من الطلب على بعض المعادن، على سبيل المثال الفلزَّات الأرضية النادرة (Rare earth materials)، وعلى الرغم من وجود هذه المعادن في جميع أنحاء العالم، لكنَّ إمكانية استخراجها تختلف اختلافًا كبيرًا من بلدٍ إلى آخر، وقد ينتج عن ذلك مجموعة من العواقب الأمنية والجيوسياسية التي يجب استكشافها من أجل فهم مخاطر وفرص هذا التوسع.
ويُلاحَظ أنَّ المعادن والفلزَّات المستخدمة في تقنيات الطاقات المتجددة أكثر تركيزًا (من الناحية الجغرافية) من النفط، وإن شهدت البلدان المنتجة لها اضطرابات مسلحة أو كوارث طبيعية يمكن أن يؤثِّر ذلك في إمدادات السوق وإنتاج بعض تقنيات الطاقات المتجددة، لكن سيكون هذا التأثير قصير المدى، ومن غير المرجَّح أن تكتسب الدول المنتجة لهذه المعادن نفوذًا سياسيًّا بسبب التكيُّف الذي ستُبديه الدول المستوردة في استجابتها على المدى المتوسط والطويل (3).
في كلِّ الأحوال، يتوقَّع الباحثون أن تختلف الجغرافيا السياسية للطاقات المتجددة عن تلك الخاصة بالوقود الأحفوري، سواءً أدَّت إلى زيادة السلام العالمي أم لا، وبالنظر إلى التوترات التي من المتوقَّع أن تخفِّفها الطاقات المتجددة والتحديات الجديدة التي من المُحتمل أن تخلقها؛ يشير الباحثون إلى أنَّ مخاوف أمن الطاقة ستنتقل عمومًا من التركيز الإستراتيجي على موارد الطاقة إلى التركيز على توزيع الطاقة، في حين سيشهد توليد الطاقة تحديات جديدة تحل محل القديمة، منها على سبيل المثال توفير المواد الخام الحرجة (1).
في هذا السياق، يُخشى من انتقال أنماط السلوك الموجودة في نظام الطاقة القائم على الوقود الأحفوري في الماضي إلى نظام الطاقة القائم على الطاقة المتجددة في المستقبل؛ فقد تنافست القوى العظمى للسيطرة على النفط، وفي المستقبل ستتنافس على المواد الخام الحرجة (Critical materials)، وما كان يُعرَف بلعنة النفط، سيتحوَّل إلى لعنة المواد الخام الحرجة وصادرات الطاقة المتجددة، وكما استخدمت الدول انقطاع إمدادات النفط والغاز بوصفها أسلحةً جيوسياسية، يمكنها أن تبدأ باستخدام قطع إمدادات الكهرباء عوضًا عن ذلك (4).
سيكون لعددٍ قليلٍ من البلدان القدرة على تحقيق أرباح صافية كبيرة من زيادة استخدام الطاقات المتجددة، وأحد أسباب ذلك هو أنَّ عديدًا من الدول ستواجه انخفاضًا في الإيرادات في الوقت نفسه عند التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، أي سيكون للتحوُّل العالمي إلى الطاقات المتجددة تأثيرٌ في الاقتصاد السياسي لنظام الطاقة، وينتج هذا التأثير عن انخفاض عائدات تصدير الوقود الأحفوري بدلًا من زيادة عائدات مصدري المعادن (3).
ويرى بعض الباحثين أنَّ شؤون الطاقة الدولية ستصبح أقل ارتباطًا بالمواقع والموارد، أي ستصبح أقل جيوسياسية بطبيعتها؛ نظرًا لأنَّ موارد الطاقة المتجددة وفيرة ومنتشرة، وفي المقابل ستصبح تقنيات الحصول عليها وتخزينها ونقلها أكثر أهمية (4).
بعد قراءة هذا المقال، إلى أي الآراء تميل؟ وهل تعتقد أنَّنا يمكن أن نشهد نزاعات في المستقبل بسبب الطاقات المتجددة؟ أم أنَّها ستكون سببًا لزيادة السلام في العالم، وخاصةً أنَّها تخدم غايةً مهمة في النهاية وهي مقاومة التغير المناخي؟
المصادر:
2. Critical Materials Hub [Internet]. Energy.gov. [cited 12 December 2021]. Available from: هنا
3. Månberger A, Johansson B. The geopolitics of metals and metalloids used for the renewable energy transition. Energy Strategy Reviews [Internet]. 2019 [cited 12 August 2021];26:100394. Available from: هنا
4. Overland I. The geopolitics of renewable energy: Debunking four emerging myths. Energy Research & Social Science [Internet]. 2019 [cited 12 August 2021];49:36-40. Available from: هنا