التعليم واللغات > اللغويات
استخدام الأدوات الميكانيكية وعلاقتها بمهاراتنا اللغوية
تُعدُّ قدرتنا على استخدام الأدوات الميكانيكية واللغة من السمات المميزة للتطور البشري، بسبب التشابه بين العمليات الحركية لاستخدام الأداة وتلك الداعمة للغة.
فقد افتُرض بأن التركيب النحوي واستخدام الأداة قد يشتركان في موارد الدماغ. فهناك ركائز عصبية مشتركة. ووُجد باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي وتحليل النمط المتعدد المتغيرات أن أجزاء صغيرة من العقد القاعدية في الدماغ البشري تعمل كركائز عصبية مشتركة لاستخدام الأدوات والتركيب النحوي في اللغة معاً. فتدريب إحدى القدرات يجب أن يؤثر في الأداء في الأخرى. فقد بينت تجربة سلوكية أن تعلم مهمة جديدة تتضمن استخدام أداة يحسن أيضاً الأداء في مهمة لغوية معقدة. وتدعم هذه النتائج فرضية التطور المشترك لاستخدام الأداة واللغة.
تكشف هذه النتائج عن وجود وظيفة نحوية فوقية مشتركة بين العمليات اللغوية والحركية. ونتيجة لذلك تعمل قدرات التدريب المتضمنة استخدام الأدوات على تحسين التركيب النحوي، وبالمقابل، يؤدي تدريب القدرات القواعدية اللغوية إلى تحسين استخدام الأداة. وتشير النتائج إلى أن العقد القاعدية (basal ganglia) بصفتها الموقع العصبي للقواعد اللغوية تتعامل كجزء لا يتجزأ مع الهياكل المضمنة في أي مجال وتدعم أيضاً النظريات القديمة للتطور المشترك لاستخدام الأداة واللغة عند البشر (1).
وأظهرت دراسة أجراها المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية Inserm أن استخدام الأدوات الميكانيكية يحسن مهارتنا اللغوية. فقد كشفت الأبحاث عن وجود علاقة خاصة بين مهارة الفرد في استخدام الأدوات ومقدرته الجيدة على فهم التركيب النحوي. وأظهرت دراسة جديدة أجراها باحثون مؤخراً من عدة مراكز بحثية وجامعات أن المهارتين كلتيهما تعتمدان على نفس الشبكات العصبية التي تقع في نفس المنطقة بالدماغ. وبالإضافة إلى ذلك، يؤدي التدريب الحركي الذي يستخدم الأدوات إلى تحسين قدرتنا على فهم التركيب النحوي للجمل المعقدة والعكس بالعكس –أي إن التدريب النحوي يحسن كفاءتنا في استخدام الأدوات. ويمكن تطبيق هذه النتائج سريرياً للمساعدة على إعادة تأهيل المرضى الذين فقدوا بعض مهاراتهم اللغوية (1).
وتشير الأبحاث إلى أن مناطق الدماغ التي تتحكم في وظائف لغوية معينة، مثل معالجة معاني الكلمات، تشارك أيضاً في التحكم في المهارات الحركية الدقيقة. ومع ذلك، لم يقدم تصوير الدماغ أدلة على مثل هذه الصلة بين اللغة واستخدام الأدوات. وكان علم الأعصاب القديم Paleo-neurobiology (مجال يدرس فيه العلماء تطور تشريح دماغ أسلافنا) قد أظهر أيضاً أن مناطق الدماغ المرتبطة باللغة قد زادت عند أسلافنا خلال فترات الازدهار التكنولوجي، عندما أصبح استخدام الأدوات أكثر انتشاراً (1) .
وتشير دراسة تتبُّع حديثة عن تماثل منطقة بروكا في الرئيسيات الحية غير البشرية مع تلك التي عند البشر في الاتصال وبنية الشبكة التي ربما زودت أشباه البشر الأوائل بتكيفات مسبقة للغة (2).
وعند دراسة هذه البيانات، لم تستطع الفرق البحثية مقاومة التساؤل عما لو كان استخدام أدوات معينة، والتي تتضمن حركات معقدة، يعتمد على نفس موارد الدماغ مثل تلك التي تُحشد في وظائف لغوية معقدة مثل التركيب النحوي!
يُربط العمل والإدراك وظيفيّاً في الدماغ، ولكن السؤال الجدلي هو فيما لو كان الإدراك ومحفزات الفهم تعتمد على المسارات الحركية. لقد وجدت التحقيقات من خلال تصوير الأعصاب في حالة فهم الأشخاص لأصوات الكلام ومعاني الكلمات وهياكل الجملة تنشيطاً لمحركات محددة. علاوة على ذلك، أظهرت الدراسات التي تنطوي على التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة والمرضى الذين يعانون من الآفات التي تؤثر في المناطق الأمامية الأدنى من الدماغ اشتراكاً في المسارات الحركية المتعلقة بفهم الصوتيات والفئات الدلالية والتركيب النحوي. تشير هذه البيانات إلى أن الفهم اللغوي يستفيد من أنظمة الإجراءات الأمامية، مما يدل على أن العمل والمسارات الإدراكية مترابطة (3).
تمارين النحو واستخدام الكماشات
في عام 2019، بيَّن كُلٌّ من الباحث كلاوديو بروزولي Claudio Brozzoli من المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية مع الباحثة أليس سي. روي Alice C. Roy من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، وأعضاء فريقهما البحثي، أن الأفراد الذين يملكون على نحو محدد مهارة في استخدام الأدوات كانوا أيضاً أفضل عموماً في التعامل مع النقاط الدقيقة في القواعد النحوية السويدية (1).
ومن أجل استكشاف الموضوع على نحو أعمق طور نفس الفريق بالتعاون مع الباحثة فيرونك بولنجر Véronique Boulenger من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي سلسلة من التجارب اعتمدت على تقنيات تصوير الدماغ (التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي أو التصوير بالرنين المغناطيسي MRI) والقياسات السلوكية. وطُلب من المشاركين إكمال عدة اختبارات شملت تدريبات حركية باستخدام كماشات بطول 30 سم وتدريبات نحوية باللغة الفرنسية. وقد مكن ذلك العلماء من تحديد شبكات الدماغ الخاصة بكل مهمة، رغم كونها مشتركة أيضاً في كلا المهمتين (1).
واكتشفوا للمرة الأولى أن التعامل مع الأداة والتمارين النحوية أدى إلى تنشيط الدماغ في مناطق مشتركة، وبنفس التوزيع المكاني، في منطقة تسمى "العقد القاعدية"، وهي مجموعة من الخلايا العصبية التي تسمى أيضاً نوى تقع في أعماق نصفي الكرة المخية من الدماغ. تشارك العقد القاعدية بصورة أساسية في المعلومات التي تكون متعلقة بالحركة، بالإضافة إلى أنها تعالج المعلومات المتعلقة بالعواطف والدوافع والوظائف المعرفية. يرتبط ضعف العقد القاعدية بعدد من الاضطرابات التي تؤثر في الحركة بما في ذلك مرض باركنسون ومرض هنتنغتون والحركة البطيئة أو الحركة غير المنضبطة والتي تكون عبارة عن خلل في التوتر العضلي (1).
التدريب المعرفي
نظراً إلى أن هاتين المهارتين تستخدمان نفس موارد الدماغ، فهل من الممكن تدريب أحدهما لتحسين الآخر؟ هل يؤدي التدريب الحركي باستخدام الملقط الميكانيكي إلى تحسين فهم العبارات المعقدة؟ نظر العلماء في القسم الثاني من دراستهم في هذه القضايا وأظهروا أن هذا هو الحال بالفعل.
طُلب هذه المرة من المشاركين في البحث إجراء تمارين في الفهم النحوي قبل وبعد 30 دقيقة من إجراء التدريب الحركي المتضمن استخدام الكماشة. وبهذه التجربة أوضح الباحثون أن التدريب الحركي باستخدام الأداة يؤدي إلى تحسُّن الأداء في تدريبات الفهم النحوي. إضافةً إلى ذلك تظهر النتائج أن العكس صحيح أيضاً، فتدريبات القدرة على فهم الجمل ذات التراكيب المعقدة أدت إلى تحسين الأداء الحركي باستخدام الأداة (1).
ويفكر العلماء حالياً بأفضل طريقة ممكنة لتطبيق نتائج الدراسة في البيئة السريرية. ويختتم بروزولي: "نبتكر حالياً بروتوكولات يمكن اتباعها لدعم إعادة تأهيل المرضى واستعادة المهارات اللغوية لمن ما زالوا يحتفظون نسبياً بقدراتهم الحركية، كالشباب الذين لديهم اضطرابات اللغة النمائية. وإلى جانب هذه التطبيقات المبتكرة، تعطينا هذه النتائج أيضاً فكرة عن كيفية تطور اللغة على مر التاريخ، عندما بدأ أسلافنا في تطوير واستخدام الأدوات، غيرت هذه الكفاءة الدماغ تغييراً عميقاً، وفرضت مقتضيات معرفية ربما أدت إلى ظهور وظائف معينة مثل النحو" (1).
التدريب الحركي وتمارين النحو
يتضمن التدريب الحركي استخدام الكماشة لإدخال أوتاد صغيرة الحجم في ثقوب لها الشكل ذاته ولكن باتجاهات مختلفة، أما التدريبات النحوية والتي أُكمِلت قبل هذا التدريب وبعده فتضمنت قراءة جمل ذات تركيب بسيط، مثل: "العالِم المعجب بالشاعر، يكتب مقالاً" وأخرى أكثر تعقيداً في تركيبها، مثل "العالِم الذي يعجب الشاعر يكتب مقالة." ثم تعيَّن على المشاركين تحديد ما إن كانت عبارات مثل "الشاعر معجب بالعالِم" صحيحة أم لا. إن الجمل في اللغة الفرنسية التي تحتوي على ضمير المفعول به المتصل "que" تكون معالجتها ذهنياً أكثر صعوبة، ومن ثمَّ كان الأداء أضعف عموماً (1).
تُظهر هذه التجارب أن أداء المشاركين بعد التدريب الحركي كان أفضل في معالجة الجمل التي عُدَّت أكثر صعوبة. أما المجموعات الضابطة بعد التدريب الحركي والتي أدت نفس المهمة اللغوية باستخدام الأيدي فقط دون الكماشات أو لم تجرِ أي تدريب حركي على الإطلاق فلم يُظهر أفرادها تحسُّناً مساوياً لأفراد المجموعات السابقة في أدائهم للتدريبات النحوية (1).
المصادر:
2. Steele J, Ferrari P, Fogassi L. From action to language: comparative perspectives on primate tool use, gesture and the evolution of human language. Philosophical Transactions of the Royal Society B: Biological Sciences. 2012;367(1585):4-9. Available from: هنا [Accessed 28 May 2022].
3. Pulvermüller F, Fadiga L. Active perception: sensorimotor circuits as a cortical basis for language. Nature Reviews Neuroscience. 2010;11(5):351-360. Available from: هنا [Accessed 28 May 2022].