علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث
هل الخوف من السعادة أمر حقيقي ؟
يكشف الباحثون عن أسباب خوف البعض من المناسبات والأحداث السعيدة .
قد يفهم الجميع ماهية الخوف من الأفاعي أو المرتفعات أو الإبر أو حتى المهرجين لكن الخوف من السعادة ؟! من الصعب استيعاب فكرة أن شخصا ما قد يكون خائفا من أن يكون سعيدا، فمن خلال عملي منذ عدة سنوات مع إحدى المرضى وتُدعى سارة في محاولة مني لحل مشكلاتها المتعلقة بالقلق والناجمة عن ضغط العمل ومساعدتها لإدراك المعنى الحقيقي للسعادة ، فاجأتني عندما قالت لي : أخاف حقا أن أشعر بالسعادة
، فسألتها : ما هي الأشياء التي تخافين أن تحصل في حال شعرتي بالسعادة ؟. لقد ذكرت لي هذه المرأة التي تتمتع بالكفاءة والذكاء والتي مازالت في منتصف العمر أنه طوال حياتها كلما شعرت بالفرح والابتهاج يلي هذا الشعور حادثا أو أمرا ما يُشعرها بالضيق والخيبة وحتى الألم.
بدأنا بالبحث معا عن امكانية إصابتها بما يُدعى بالإدراك الانتقائي حيث أنها اعتادت على ملاحظة الحوادث السلبية نتيجة توقعاتها السلبية أكثر من كون هذه الحوادث هي سلسلة من الأسباب و النتائج المباشرة و التي يكون فيها الشعور بالسعادة سببا لوقوع حوادث أليمة و متلاحقة .
تذكرت سارة في محاولة لتفسير مخاوفها يوم عودتها من المخيم الصيفي عندما كانت في الصف السادس وكانت في غاية السعادة والسرور لتتلقى فور ذلك خبر وفاة جدتها التي كانت شديدة التعلق بها والتي أصابها المرض وفارقت الحياة في تلك الليلة ، فبالنسبة لسارة كانت تلك الواقعة بمثابة التجربة الأولى التي تبدأ نهارها فيها بالسعادة لينتهي بحزن عميق وخيبة أمل بعد ذلك ، وبينما صارحتني سارة أن ليس كل أيامها الجيدة كانت تحمل نهايات حزينة ، إلا أنها كانت مقتنعة تماما بأن تكرار حصول تلك التجارب السيئة كتلك الشبيهة بحادثة وفاة جدتها كانت كفيلة بترسيخ قناعتها بأن شيئا جيدا سيتلوه شيئا سيئا لا محالة.
من خلال العلاج استطاعت سارة فك ربطها الذهني بين هاتين الحادثتين؛ بين شعورها الغامر الذي كانت تستشعره عند وصولها البيت و خبر وفاة جدتها. بعد ذلك بدأت أتساءل عن مدى شيوع هذه الحالة وكم من الأفراد قد تطور لديهم شعور الخوف من السعادة تدريجيا ولم يدركوا ذلك بعد وبدلا من ذلك يعتبرون أنفسهم أشخاصا يعيشون فقط حالة من الانطواء لأنهم يرفضون الذهاب للحفلات واللقاءات الاجتماعية التي غالبا ما يكون المرح الهدف الوحيد من وراءها.
لقد تم نشر دراسة في عام 2013 في مجلة Cross-Cultural Psychology للتحري عن هذا الموضوع والإجابة على السؤال الذي كان يراودني ، حيث استخدم باحثون في نيوزيلندا و آخرون في انكلترا مقياس الخوف من السعادة والذي يقيس لأي مدى/درجة قد يربط الناس بين الشعور بالسعادة وحصول أمر سيء كأمر متوقع إثر الشعور بالسعادة ، وقد حددت هذه الدراسة علاقات وترابطات متفاوتة ومتعددة بين الخوف و السعادة لدى العديد من الأشخاص. على سبيل المثال ، يبدو أن الأشخاص الذين يعانون غالبا من الاكتئاب يتجنبون القيام بنشاطات قد تبعث على الشعور بالسعادة و تتطور هذه الحالة لتغدو كحلقة لولبية يُرسخ فيها الانطواء الاجتماعي - والذي هو من الأعراض الشائعة لمرض الاكتئاب- الشعور بالقلق لديهم بأنه في حال راودتهم مشاعر المرح والسعادة والسرور في حفلة العطلة الصيفية أو حفلة الشواء سيؤدي هذا الشعور لا محالة لنوع من خيبة الأمل أو الشعور بالوحدة أو نوع آخر من الفتور. أما بالنسبة للأشخاص الذين ينزعون نحو الكمالية فهم غالبا ما يخافون الشعور بالسعادة حيث أنهم يربطون بين السعادة وبين الكسل والنشاطات العديمة الجدوى
، وحتى الذين لا يُعانون من أي اضطراب عقلي لا بد أنهم قد مروا بتجارب قد عاشوا فيها أحداث ومناسبات سعيدة و ايجابية وقد حصل أن تلاحقت جميعها بحدث سيء و غالبا ما يقوم هؤلاء الأفراد بغربلة وتصفية مداركهم بإقصاء الأوقات التي لم يحدث فيها شيء ملفت للنظر بعد قضاء وقت سعيد
تقوم هذه النماذج من التفكير -التي تميل للكمال- بتشويه الذاكرة وحرف إدراكاتنا الذهنية عن مسارها الصحيح في تفسير الأحداث التي نمر بها في حياتنا ، على سبيل المثال عقب حفلة عيد ميلاده التي كانت تضج بالفرح وقع جوش عن دراجته وأصاب معصمه إصابة بالغة مما اضطره لوضع جبيرة لاستعادة عافيته. وفي حادثة أخرى فقد جوش محفظته في نفس اليوم الذي فاز فيه فريقه الرياضي في الثانوية ببطولة على مستوى الاقليم فكانت هذه التجارب شديدة الأثر عليه ، مما رسخ لديه قناعات بأن هنالك علاقة وثيقة بين السعادة وبين التعاسة وسوء الحظ ، فالأحداث التي تحمل في طياتها صدمات سواء كانت جسدية أو عاطفية من شأنها أن تترك أثرا عميقا في ذاكرة صاحبها لدرجة أنها قد تحجب أحداث أكثر أهمية بل أكثر إيحاءا، فعندما تظهر مشاعر عاطفية قوية تجاه تجربة سعيدة مصحوبة بألم أو خيبة أمل لاحقة تتطور هذه المشاعر لتصبح ذكريات تترسخ في ذاكرة صاحبها سواء كانت جسدية أو عاطفية بعد ذلك ليتطور لدى هذا الشخص فلاتر إدراكية حسية تدفعه لتجنب/تفادي فرص تبعث على السعادة خوفا من شيء سيء قد يلوح في الأفق.
كيف تعلم إن كنت من هؤلاء الأشخاص الذين يخشون الشعور بالسعادة ؟
إليك هذه الأسئلة المباشرة المتعلقة بمقياس الخوف من السعادة:
هل تخاف السماح لنفسك بأن تصبح في غاية السعادة:؟
هل تعتقد بأنك شخص لا يستحق أن يكون سعيدا؟
عندما تشعر بالسعادة هل ينتابك شعور بأن أمرا سيئا قد يحصل بعد ذلك؟
إن تمت الإجابة على إحدى هذه الأسئلة بالإيجاب فهذا يدل على أنك شخص يضع حواجز وعقبات تحول بينه وبين سعادته
لمساعدة الأشخاص في التغلب على مخاوفهم من السعادة ، من المهم البدء بخطوات صغيرة وبسيطة من خلال مساعدتهم على الاعتياد على السماح لأنفسهم بإدراك شعورهم بالراحة عندما تنتابهم مشاعر إيجابية إلى حد ما وتطوير هذه المشاعر كالشعور بالرضا عند إتمام تنفيذ مهمة صعبة أو حتى الشعور بالاستمتاع بيوم مشرق ، فبعد اغتنام فرص عدة قد تسمح باختبار الشعور بالفرح المعتدل يمكن أن يلحظوا غالبا أن لا فاجعة قد تلت تلك المشاعر الإيجابية ، وعندما يكون مصدر الخوف صدمة قد خلفتها تجارب من الطفولة كما هو حال سارة وجوش من المهم جدا معالجة هذه التجارب المؤلمة والتطرق إليها ومحاولة تعديل الإدراكات والتفسيرات المشوهة التي تشكلت في ذهن هذا الشخص في ذلك الوقت ، فالربط الذهني المشوه بين الأشياء كالذي تعاني منه سارة يمكن أن يصبح عادة وسلوك ذهني اعتيادي ، وقد يقتصر الأمر على بضعة مناسبات ذات تأثير كبير ليتطور ذلك الشعور بالخوف من السعادة لدى شخص ما ، إلا أنه من المهم أيضا إدراك أنه من الممكن جدا حل و فك هذا الربط المغلوط أو الخاطئ . احتفلت سارة مؤخرا بعيد ميلادها ال 45 وقد أقامت حفلا كبيرا وكتبت لي لتخبرني بأنها كانت تشعر بالسعادة والصحة ولم يحصل أي شيئ مزعج يعكر صفوها عقب ذلك الاحتفال.
المصدر:هنا