الفنون البصرية > فنانون عالميّون
فنانة الحداثة الأمريكية جورجيا أوكييف
على مدى سبعة عقود، كانت جورجيا أوكييف (Georgia O’Keeffe) أحد الشخصيات الرئيسة في الفن الأمريكي. سَجّلت جورجيا أوكييف الفروق الدقيقة في اللّون والشكل والضوء التي أَحيَت لوحاتها وجذبت جمهورًا واسعًا بفضل قوة ملاحظتها الشّديدة وبراعتها المطلقة باستخدام فرشاة الرسم. كانت موضوعاتها الأساسية المناظر الطبيعية والزهور والعظام التي استُكشفت في سلسلةٍ لسنوات عديدة وعقود. رَسمت الصور من تجربتها الحياتية وكانت ترتبط عمومًا أو خصوصًا بالأماكن التي عاشت فيها، ومن اللافت للنظر أنها ظلت مستقلة عن اتجاهات الفن المتغيرة وبقيت وفيّةً لرؤيتها الخاصة التي كانت قائمة على إيجاد الأشكال الأساسية والتجريدية في الطبيعة.
وُلدت جورجيا أوكييف بالقرب من صن براري في ولاية ويسكونسن عام 1887 (Sun Prairi Wisconsin). وفي خريف عام 1907 انتقلت أوكييف إلى مدينة نيويورك وحضرت دروسًا في رابطة طلاب الفنون؛ إذ درست بإشراف الفنان والمعلم ويليام ميريت تشيس (William Merritt Chase). وبسبب فوز إحدى لوحاتها بجائزة سُمح لها بحضور المدرسة الصيفية للرابطة في بحيرة جورج، نيويورك (Lake George, New York). خلال إقامتها في مدينة نيويورك ترددت على المَعارض الفنية مثل (غاليري 291)، الذي امتلكه المصوّر ألفريد ستيغليتز (Alfred Stieglitz) وكان المَعرض واحدًا من الأماكن القليلة في الولايات المتحدة إذ عَرض الفن الأوروبي الطليعي (Avant-garde) وتَعرّفت جورجيا هناك للمرة الأولى على روّاد الفن الأوروبي، مثل أوغست رودان وهنري ماتيس (1-3).
وفي عام 1912 بدأت أوكييف في التركيز على فنّها، بعد حضور دورة صيفية لمعلميّ الفنون في جامعة فيرجينيا، وهناك عَرّفها معلمها ألون بيمنت (Alon Bement) على الأفكار التقدمية لأرثر ويزلي داو (Arthur Wesley Dow).
بدأت أوكييف في أثناء تدريسها في كلية كولومبيا في ساوث كارولينا عام 1915 بتجربة "نظرية داو" (Dow Theory) لاكتشاف الذات من خلال الفن. أخذت أوكييف أشكالًا طبيعية مثل السّرخس والغيوم والأمواج وبدأت سلسلة صغيرة من رسومات الفحم التي بَسّطتها إلى مجموعاتٍ مُعبّرة ومجرّدة من الأشكال والخطوط. اتّصفت هذه الأعمال بالجرأة بخطوطها المنسّقة وشكلها ونبرتها في التراكيب المجرّدة التي قادت فنّها - وحياتها المهنية - في اتجاه جديد.
من خلال هذه الرسومات، استرعَت أوكييف انتباه المصوّر البارز ومالك معرض نيويورك ألفريد ستيغليتز (Alfred Stieglitz) - الذي تزوج منها في وقت لاحق-، إذ عرض رسوماتها في معرضه غاليري 291، وقُدمت أعمالٌ لفنانين ومصورين أوروبيين وأمريكيين رائدين للجمهور الأمريكي (1-4).
خلال عشرينيات القرن الماضي، رسمت أوكييف سلسلة من الصور المعمارية التي تصوّر ناطحات السّحاب الشاهقة والمناظر الجويّة لمدينة نيويورك. لكنها غالبًا ما كانت ترسم مناظر طبيعية ودراسات نباتية مستوحاة من الرحلات السنوية إلى المنزل الصيفي لعائلة ستيغليتز في بحيرة جورج في نيويورك، إذ تعرفت هناك على أصدقائه الفنانين من أمثال جون مارين (John Marin) وبول ستراند (Paul Strand).
تأثَّرت أوكييف بتصوير ستراند وقدرة الكاميرا على التصرف مثل العدسة المُكبّرة، بالإضافة إلى الدّقة المُحْكَمٍة لتشارلز شيلر (Charles Sheeler). بعد ذلك بدأت أوكييف في رسم لوحات كبيرة لأشكال طبيعية من مسافة قريبة وخلال هذا الوقت تحوّلت أيضًا من الألوان المائية إلى الطلاء الزيتي (4,2,1).
قُرب نهاية العقد، أثّرت ضغوط التعامل مع عالم الفن في نيويورك، ومللها المتزايد في بحيرة جورج، وتدهور علاقتها مع ستيغليتز على صحتها الجسدية والعاطفية. ردّاً على ذلك، قامت بأول رحلة طويلة لها إلى نيو مكسيكو في عام 1929. وكانت تلك الزيارة ذات تأثير دائم على حياتها، كما كان لها تأثير فوري على عملها، إذ أَلهمت المناظر الطبيعية الصارخة وثقافات الأمريكيين الأصليين والأسبان في المنطقة اتّجاهًا جديدًا في فنّ أوكيف. على مدار العشرين عامًا التالية، من عام 1929 إلى عام 1949، قامت برحلات سنوية تقريبًا إلى نيو مكسيكو، ومَكَثت هناك لمدة ستة أشهر، ورسمت في عزلة نسبية، ثم عادت إلى نيويورك كلّ شتاء لعَرض العمل الجديد في معرض ستيغليتز. استمرت جورجيا هذا النمط حتى انتقلت نهائيًّا إلى نيو مكسيكو عام 1949.
وجدت أوكييف هناك موضوعات جديدة لرسمها في عظام الحيوانات المُبيَضة بالشمس، والجبال الوعرة التي تهيمن على التضاريس. أعادت الفنانة إنتاج أسطُح جُمجمة بالية و حواف خشنة وفتحات غير منتظمة بطريقة رائعة في اثنتان من أقدم لوحاتها الجنوبية الغربية وأكثرها شهرة - جمجمة البقرة: الأحمر والأبيض والأزرق (Cow’s Skull: Red, White, and Blue)، وجمجمة البقرة مع زهور كاليكو (Cow’s Skull with Calico Roses) من عام 1931, وبدلاً من الإشارة إلى الموت عدت أوكييف العظام رمزًا إلى الجمال الأبدي للصحراء. وفي وقت لاحق رسمت لوحات قماشية خيالية تجمع بين الأجسام الهيكلية وصور المناظر الطبيعية في نفس التكوين (4,2,1).
كانت هذه الأعمال استفزازية ومُقلقة على حدّ سواء، وأدّى التجاور الفردي والتناقضات في الحجم إلى اعتبار هذه الأعمال بأنها سريالية. بين عاميّ 1943 و 1945 استكشفت جورجيا تباينًا آخر عن موضوع العظام في سلسلتها الكبيرة من صور الحوض والتي ركزت على التناقضات بين الأسطح المحدبة والمقعرة والمساحات الصّلبة و المفتوحة.
على الرغم من أن عظام صحراء نيو مكسيكو قد أثارت في البداية خيال أوكييف إلّا أن المناظر الطبيعية المهيبة في المنطقة بتكويناتها الجيولوجية غير العادية وألوانها الزاهية وصفاء الضوء والنباتات الغريبة هي التي شدت انتباهها لأكثر من أربعة عقود. غالبًا ما كانت جورجيا ترسم الصخور والمنحدرات والجبال في لقطات مقرَّبة مثيرة تمامًا كما فعلت مع مواضيع الزهور. كان أحد الإعدادات المفضلة لها موقعٌ أطلقت عليه اسم "المكان الأسود" (Black Place)، والذي فسرته بشكل بانورامي وفي مناظر ضيّقة مع التركيز على المنعطف الممزق لتلتين.
تُشبه لوحات المناظر الطبيعية لـجورجيا لوحات الزهور الخاصة بها من جهة أنها غالبًا ما تلتقط جوهر الطبيعة كما رأتها الفنانة دون التركيز على التفاصيل. في أعمال مثل “المكان الأسود , رمادي و زهري” (Black Place, Grey and Pink)، إذ تؤكد على المساحات المفتوحة الواسعة وفراغ المناظر الطبيعية حول مزرعتها في نيو مكسيكو التي اشترتها في عام 1940 في آفاق تتعارض مع مناظر المدينة الخانقة. تُجَسِّد لوحاتها للمنطقة هذا الإحساس بالمكان وارتباطها به إذ عبرت عن ذلك بقولها: "عندما وصلت إلى نيو مكسيكو كان ذلك ملكي. بمجرد أن رأيته كان ذلك وطني. لم أرَ شيئًا مثله من قبل ولكنه يناسبني تمامًا. إنه شيء في الهواء إنه مختلف، السماء مختلفة والرياح مختلفة." غالبًا ما يكون اللون الأحمر والوردي المدهش للأرض في هذه اللوحات بمنزلة تصورات دقيقة لمشهد الصحراء المُلَوّن (2,1).
كانت موضوعات أوكييف مستوحاة دائمًا من حياتها، وسلسلة “السماء فوق الغيوم” ( Sky Above Cloud) ليست استثناءً. تتحدث اللوحة عن رحلاتها العديدة في الخمسينيات والستينيات إذ سافرت أوكييف على نطاق واسع في العالم من الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا إلى الهند والشرق الأوسط وأوروبا ورسمت أعمالًا تستحضر الأماكن الرائعة التي زارتها بما في ذلك قمم جبال بيرو وجبل فوجي الياباني. في سنّ الثالثة والسبعين تناولت الفنانة موضوعًا جديدًا: المناظر الجويّة للسُحب والسماء (4,2,1).
ألهمت سلسلة التحليق بالطائرات آخر سلسلتين رئيسيتين لها ” كانت زرقاء وخضراء “ (It Was Blue and Green) و "السماء فوق الغيوم” (Sky Above Clouds) و كانتا لوحات واسعة للسماء ومناظر جويّة للأنهار، في كلتا السلسلتين زادت أوكييف من حجم لوحاتها، أحيانًا إلى أبعاد جدارية ربما كان ذلك انعكاسا لرؤيتها المُوسَّعة حديثًا للعالم و من اللافت للنظر أنها كانت تبلغ من العمر 80 عامًا في ذلك الوقت، فبدأت في مدّ لوحات ضخمة بعرض 7 أمتار تقريبًا لالتقاط اتّساع المشهد. تُظهر هذه اللوحة بخط أفقها المرتفع وسُحبها المُبسَّطة التي تمتد إلى ما وراء الإطار تأثير رسم المناظر الطبيعية الشرقية والذي غالبًا ما يستخدم أيضًا خط أفق مرتفع مع رؤية واسعة للأرض. يؤكد العمل أن فَنّ أوكييف بغض النظر عن الحافز فإنّه يظل ثابتًا على مدى عقود عديدة، إنها تقدّم مشهدًا طبيعيًا أو تكوينًا بطريقة تركز على عناصره الشكلية الأساسية وتجعله مجردًا (2,1).
وعلى الرغم من تضاؤل شعبيتها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فإن معرضًا استعاديًّا أقامه متحف ويتني للفن الأمريكي (Whitney Museum of American Art) في عام 1970 أعاد إحياء حياتها المهنية ولفت انتباه جيل جديد من النساء في عصر النسوية. وكانت سيرتها الذاتية المصورة بعنوان (جورجيا أوكييف) من أكثر الكتب مبيعًا عام 1976.
كان العقدان الأخيران من حياة الفنانة غير مُنتجين نسبيًّا إذ أعاقها اعتلال الصحة والعمى وسلبها القدرة على العمل. عندما توفيت في Santa Fe في 6 مارس 1986 عن عمر يناهز 98 عامًا. نظم المتحف الوطني معرضًا في عام 1987 للاحتفال بالذكرى المئوية لميلادها. ونُثر رمادها على المناظر الطبيعية في نيومكسيكو التي أحبتها لأكثر من نصف قرن. استمرّ إرثها الغني من حوالي 900 لوحة في جذب الأجيال اللاحقة من الفنانين ومُحبيّ الفن الذين يستمدون الإلهام من هذه الصور الأمريكية للغاية (1-3).
المصادر: