علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث
عزلةٌ في عالم الضجيج
شكل خطاب سوزان كاين "Susan Cain" الذي ألقته عام 2012م عبر منصة TED talk جملةً من الأفكار الثورية آنذاك، انتقدت بها كيفية إضفاء المجتمعات الغربية صورةً مثالية على الاجتماعيين "Extroverts"، إضافةً لتأكيدها على ضرورة الاهتمام بالانعزاليين "Introverts" والذي يستطيعون فعله، وكان كلامها بمنزلة شرارةٍ لتدفق عددٍ من الأعمال الأكاديمية والكتب والبرامج الإذاعية لمناقشة نمط حياتهم ومهاراتهم القيادية (1).
وبالعودة لأصل التسمية، فقد ظهر مصطلحيّ "الانعزالية-Introversion" و "الاجتماعية-Extroversion" للمرة الأولى على يد الطبيب النفسي كارل جانغ "Carl Jung" في عشرينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين، ما زال الجدل قائمًا عن أفضلية إحدى تلك الشخصيات على الأخرى، وخلال استمرارية هذا الجدل، صُورت العُزلة على أنها نقطة ضعف، والادعاء بأن الميل للانفراد بالنفس يحدُّ من قدرات الفرد على التطور، حتى أن جمعية علم النفس الأمريكية اقترحت منذ ثلاثين عام إضافة اضطراب باسم "اضطراب الشخصية الانعزالية" لدليلها التشخيصي، أي أنه -وباختصار- الاجتماعية صُورت على أنها متفوقة عن الانعزال (2)، فهل هذا حقًا صحيح؟ وما الذي أسهم في تصدير هذه الصور؟
في زمنٍ أصبح فيهِ عدم امتلاكِ حساب خاص على إحدى منصات التواصل الاجتماعي يساوي عدم وجود الشخص أصلًا، إذ أدى تطور كل من الكاميرات والكومبيوتر دورًا كبيرًا في زيادة هذه النزعات، بحسب ما أوضح العالم "William Deresiewicz" في مقالة نشرها بعنوان "نهاية العزلة-The End of solitude"، وأضاف؛ أدى تطور الكاميرات إلى ظهور المشاهير والشهرة، وأدى تطور الكومبيوتر إلى خلق ثقافة تواصلٍ دائم، وكل من الشهرة والاتصال هي وسائل لتكون معروفًا، وهذا الأخير يُعد هدف الإنسان المعاصر الذي لا يمكن تحقيقه مع الوحدة، بوصفه؛ الخوف الحديث هو الخوف من أن تكون مجهولًا (2).
ولا يستغرق الأمر وقتًا طويلًا لرؤية انعكاس هذه الأفكار على الواقع، فنُظم التعليم -مثل التعليم التفاعلي وأسلوب الفصل المقلوب- أصبحت تُصمم لتناسب الاجتماعية (3). والصورة النمطية التي تُرسم الآن عن القادة الرائدين بأنهم أصحاب كاريزما واجتماعيين، تعاكس أحدث الأبحاث التي تدل على أن القادة الهادئين أصحاب الشخصية الانعزالية يمكن أن يكونوا أكثر ملاءمةً لبيئة العمل الحالية، مع الأخذ بعين النظر أن نجاح المدير الذي يتمتع بإحدى صفات الشخصيتين يتوقف على صفات الموظفين، إذ إن وجود مدير بشخصية اجتماعية مع موظفين بشخصية اجتماعية يؤدي لنشوء خلافات ستختفي بوجود مدير ذو شخصية انعزالية، والعكس بالعكس (2).
أما عضويًّا، فقد وجد العلماء اختلافًا بسيطًا في طريقة عمل الدماغ بين أصحاب نمطيّ الشخصية يتحدد بسَلك المعلومات لسُبلٍ مختلفة في أثناء معالجتها، واستخدام نواقل عصبية مختلفة، إذ تستدعي أدمغة الاجتماعيين الأفكار من الذاكرة قصيرة الأمد لاستحداث الأفكار، أما الانعزاليين وعلى النقيض، يستدعون الأفكار من الذاكرة طويلة الأمد لإنشاء ارتباطاتٍ أكثرَ تعقيدًا، الأمر الذي يستغرقُ وقتًا أطول لإتمامه، ومن الواجبِ مراعاة هذه الفروق في الأساليب التعليمية، فمن الممكن أن يأخذ الطفل ذو الشخصية الانعزالية وقتًا أكبر للإجابة على سؤالٍ قد تكون إجابة زملائه الاجتماعيين عليه أسرع (3).
حتى في المجال الطبي، فلا يزال الجدلُ قائمًا عن أفضلية إحدى هذه الشخصيات على الأخرى في اختصاصاتٍ محددة (الجراحة مثلاً)، إذ تُصدّر صورة الجراح النمطية بأنه مسيطرٌ وحاسم وخَشن الطِباع، في الوقت الذي يكون فيه الانعزاليين أكثر هدوئًا وحذرًا من اتخاذ القرارات، لكن غالبًا ما يُفسر هذا التأني بنقصانِ الثقة بالنفس أو الضعف العلمي.
وعلى الرغم من صعوبة إجراء أبحاث ذات نتائج واضحة في مثل هذا المجال (كون أغلب الممارسين لهذا الاختصاص يتبنّون الشخصية النمطية المسيطرة في مكان عملهم حتى لو لم تكن تمثلهم تمامًا)، أُجريت دراسة ضمت ستةَ جراحين وعشر مقيمين في الجراحة العامة لسؤالهم عن تعريفهم الاجتماعية والانعزالية، وتقديرهم إن كانت هذه الصفات الشخصية مرتبطة بالنجاح المهني في هذا الاختصاص، وتضاربت آراؤهم بين من يجد بيئة العمل الجراحية تفضل الاجتماعيين بوصفها بيئة للعمل الجماعي تحتاج لاتخاذ قرارات فورية قيادية لضمان نجاحها، وآخرين ينفون وجود رابط بين الأمرين، باعتبار أن العلاقة العلاجية هنا متركزة على نحو أساسي بين الطبيب ومريضه وأحيانًا المساعدين، فهي ليست عملية اجتماعية، ولا تتأثر مهارات وتقنيات الجراح بنمط شخصيته (1).
أما أنتم قُراؤنا، هل مررتم بتجارب سابقة كنتم بها في مكانٍ أكثر أو أقل تفضيلًا بسبب أنماط شخصياتكم؟ وهل تعتقدون أن الانعزاليين أكثر تعرضًا لمواجهة مصاعب الحياة السريعة في ظل صفاتهم الهادئة؟ شاركونا آراءكم.
المصادر:
2. Dossey L. Introverts: A Defense. EXPLORE [Internet]. 2016 May;12(3):151–60. Available from: هنا
3. J.Schmidt S. Personality Diversity: Extrovert and Introvert Temperaments. Journal of Food Science Education [Internet]. 2016 Jun 15;15(3):73–4. Available from: هنا