تأثير الفراغات الخضراء الحضرية في صحة السكان

يُعد مفهوم المساحات الحضرية الخضراء مفهومًا متَّسقًا في جميع الدراسات الحضرية التي تناولته، فهو يشمل جميع الفراغات الخضراء المتاحة لجميع السكان كالمتنزهات والملاعب الرياضية والحدائق والمروج والمحميات الطبيعية والغابات والمقابر، باستثناء الفراغات الخاصة الخضراء غير المتاحة للعامة (1)، وتُعد الفراغات الخضراء ذات أثر إيجابي كبير في الصحة العقلية للإنسان؛ لما تؤمِّنه من بيئة صحية منشِّطة لوظائف الدماغ المحفزة على المتعة والإبداع والرضا، علاوةً على تنشيط المشاركة الفعَّالة ضمن المجتمع؛ فالوصول الأفضل للفراغات الخضراء في الأحياء السكنية يرتبط إيجابيًّا بمؤشرات الصحة العقلية، إضافةً إلى ارتباطها بانخفاض حالات الاضطراب والقلق وتقلُّب المزاج (2).

أثبتت العديد من الدراسات الحضرية السابقة أنَّ السكَّان الذين لديهم حصَّة أكبر من المساحات الخضراء يتمتعون بصحة عقلية أفضل وأقل تأثرًا بأحداث الحياة المجهدة من أولئك الذين لديهم حصَّة أقل من التعرُّض للخضار، ويُعد الضغط والتوتر أحد أبز عوامل الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والسكتات الدماغية، لذلك تتناسب القدرة على تخفيف احتمالية الإصابة بهذه الأمراض وتحسين القدرة العقلية للإنسان طردًا مع توفر الفراغات الخضراء ضمن الأحياء السكنية (3)، ويرتبط عامل قرب المسكن من الخضار والتعرض للخضار بصورة أطول ارتباطًا إيجابيًّا أيضًا بتحسين الصحة العقلية والنشاط البدني (4)، لكن هناك الكثير من المعايير المحدِّدة لطبيعة الفراغ الأخضر الذي قد يؤثر في الصحة العقلية والنفسية للمجتمع ككل.

معايير تقييم أثر الفراغات الخضراء في الصحة العقلية:

يعتمد تقييم المساحات الخضراء ضمن المدن على معايير عدة؛ مثل الكمية والنوعية والاستخدام وإمكانية الوصول، ولكلٍّ منها أدواتها الخاصة في القياس والتقييم لمعرفة إن كانت كافية ومناسبة للصحة العقلية والنفسية للسكان أم لا، فعلى سبيل المثال استُخدِمت طريقة فهرس الغطاء النباتي الطبيعي (NDVI) التي تستخدم الصور الجوية في رصد المساحات الخضراء، والتي انتُقِدت بعدِّها طريقة لا تميِّز في رصدها بين المساحات الخضراء العامة والخاصة (1)، وعلى الرغم من ذلك أثبتت الأدلة العلمية الارتباط الإيجابي المهم بين الصحة العامة وكمية الخضار حول المسكن، والذي يفوق بدوره معيار جودة الخضار (5)، ففي دراسة حضرية أوضحت العلاقة الإيجابية بين نسبة الخضار والصحة العامة للمقيمين، تبيَّن أنَّ الأشخاص الذي يعيشون ضمن نطاق دائري نصف قطره 1 كم أو 3 كم عن فراغ أخضر يتمتعون بصحة عقلية أفضل من الأشخاص الذين يعيشون في بيئة أقل خضرة (6).

العوامل المؤثرة في العلاقة بين الفراغات الخضراء والصحة العقلية:

إنَّ العلاقة بين الفراغات الخضراء والصحة العقلية والبدنية للسكان قد تتأثر بعوامل عديدة كالمستوى الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع، فالسكان ذوو الدخل المتوسط والمنخفض يستفيديون أكثر من الفراغات الخضراء والحدائق من السكان ذوي الدخل المرتفع، فللحيز الأخضر في الأحياء المتوسطة والفقيرة أثرٌ أكبر في الصحة العامة للسكان منه في الأحياء الثرية، وله تأثير أكبر في الأطفال وكبار السن منه في البالغين (5,6)، وقد يتعلق هذا الارتباط بالجنس أيضًا؛ إذ وُجِد بأنَّ الرجال يستفيدون من المساحات الخضراء في بيئتهم المعيشية أكثر من النساء؛ إذ أثَّرت الفراغات الخضراء في المراكز الحضرية في خفض معدَّل الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي عند الرجال بنسبة 11% (7)، ولكن يبقى ذلك غير صالح للتعميم؛ إذ يتعلَّق على نحوٍ وثيق بنمط الحياة التي يعيشها كلٌّ من الجنسين وبمستوى النشاط البدني (5)، وقد تؤثِّر المتغيرات الثقافية والمناخية للمناطق الحضرية أيضًا في الفراغات الخضراء ضمن الأحياء السكنية والذي يؤثر بطبيعة الحال في القدرات العقلية للسكان (2).

دور الفراغات الخضراء في تحسين الصحة العقلية للإنسان:

أفضت العلاقة بين الإنسان والفراغات الخضراء في المناطق الحضرية تحديدًا إلى نتائج مهمة جدًّا على صحته العامة؛ ولا سيما العقلية والنفسية، فيُعد التجديد النفسي لسكان المدن بالفراغات الخضراء أحد أهم هذه النتائج؛ إذ أثبتت التجارب دور الفراغات الخضراء في التجديد النفسي والصحي للناس، لما يحقِّقه العيش في البيئة الخضراء من أثر مهم في خفض ضغط الدم، وتقوية الانتباه والقدرة على التفكير، ورفع معدل السعادة وتخفيض التوتر والغضب وتلاشي المشاعر السلبية (8).

من المؤكَّد إجمالًا أنَّ النشاط البدني يرتبط ارتباطًا إيجابيًّا بالصحة العقلية وسلبيًّا بالضيق النفسي، لكنَّ قلة قليلة من الأدلة العلمية تربط عمومًا بين النشاط البدني والفراغات الخضراء وأهمية ذلك للسكان في جميع أنواع المجتمعات الحضرية، في حين أكد بعض الباحثين على زيادة أهمية هذا العامل في الأحياء المكتظَّة بالسكان نظرًا لحاجة سكانها للترويح عن أنفسهم والهروب من الضوضاء والازدحام (9). تأتي أهمية المساحات الخضراء في قدرتها على تعزيز التماسك الاجتماعي والشعور بالآخرين؛ ممَّا يؤثِّر بالإيجاب في الصحة العقلية؛ إذ يُناقَش مفهوم "الإحساس بالانتماء للمجتمع" بوصفه أحد أهم أسس التصميم الحضري المعاصر في تفعيل دور البيئة المادية في تعزيز الارتباط والهوية والتفاعلات الاجتماعية، حيث كانت الطبيعة والفراغات الخضراء في الغالب الاختيار الأول للسكان في دعم العلاقات والتفاعلات المجتمعية (10).

ختامًا، غالبًا ما توفِّر سياسات التخطيط الحضري الإرشادات اللازمة بشأن الحدائق والأماكن العامة المفتوحة، ولكن على الرغم من ذلك مازال هناك تباين كبير في خصوصية هذه الإرشادات؛ نظرًا لعدم توفر قالب موحَّد من المعايير التي تحدِّد نوع ومقدار المساحات الخضراء المناسبة لخدمة احتياجات المجتمع، لذلك فهناك حاجة دائمة للمزيد من الأبحاث لتوصيفٍ أفضل لحاجة المجتمع للفراغات الخضراء، وبالتحديد للدور الذي تؤديه في توفير الرفاهية الصحية النفسية والعقلية للسكان (3).

المصادر: