الفلسفة وعلم الاجتماع > علم المنطق والأبستمولوجيا
مهارة التفكير النقدي؛ في وجه الخرافة
يُعدُّ التفكير النقدي أحد أهداف التعليم، وعلى الرغم من الاختلاف في تعريف التفكير النقدي، ولكنَّ المشتركَ بين تعاريفه أنَّه التفكير الدقيق للوصول إلى هدف ما، وقد اعتُمِد التفكير النقدي غايةً للتعليم في إطار احترام استقلالية الطلَّاب وإعدادهم على النحو الأمثل للحياة بصفتهم مواطنين في بلد ديمقراطي؛ إذ يتمتَّع القادرون على التفكير النقدي بالأدوات العقلية اللازمة للاستعانة بها عند الحاجة (1).
ولنفهم التفكير النقدي فهمًا أفضل، سنستعين بتعريف الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (John Dewey 1859-1952)؛ الذي يُعدُّ الأب الروحي للتفكير النقدي الحديث، وقد عرَّف التفكير النقدي على أنَّه دراسة مستمرَّة ومتأنِّية لمعتقد أو معرفة ما مع الأخذ بعين النظر لكافة الأسس الداعمة لها، والتمعُّن في النتائج المُترتِّبة عليها، فالتفكير النقدي نشاطٌ عقلي يتضمن طَرْح الأسئلة ومحاولة الوصول إلى المعلومات على نحو ذاتي بدلًا من تلقِّيها من شخص آخر (2).
إنَّ الوصول إلى التفكير النقدي بوصفه مهارة عقلية يتطلَّب الرغبة والمعرفة والقدرات الضرورية، والرغبة هنا هي الميل نحو التفكير بطريقة معينة في ظروف معينة، ولاستمرار هذا الميل، نحتاج إلى تحفيزه وتقديره، وأن يستمتع المُفكِّر بعملية التفكير النقدي، ولكنَّ الأمر ليس بهذه السهولة، فقد يمتلك شخص ما نزعةَ التفكير النقدي تجاه أمور محددة؛ كالتفكير النقدي في العلم فقط دون التفكير النقدي في المعتقدات، وهناك عديدٌ من العوامل المؤثرة في منع حدوث التفكير النقدي؛ كالخوف من التفكير الذاتي، وغياب الثقة بالنفس، وعدم الرغبة في الاستفسار أو في الوصول إلى الحقيقة أو عدم الرغبة في بذل المجهود المطلوب للتفكير (1).
ولكي نفكِّر تفكيرًا نقديًّا، يجب أن نعرف أنَّ تفكيرنا البديهي يخدعنا باستمرار، ويمكننا عَرْض ذلك من خلال بعض الأمثلة البسيطة:
مارتن رجل أعزب يبلغ من العمر 45 عامًا، وهو انطوائي ويحب القراءة، أيُّهما أكثر احتمالية:
مارتن يعمل أمين مكتبة.
مارتن يعمل موظف مبيعات.
للوهلة الأولى يبدو الجواب الأول صحيحًا عند النظر إلى الصفات الشخصية لمارتن، ولكن عدد موظفي المبيعات أكثر بمئة مرة من عدد أمناء المكتبات، وهو ما يعنينا في الإجابة عن سؤالنا من منطق احتمالي، ومن هنا فالجواب الثاني هو الأكثر احتمالًا (3).
أيُّهما أكثر احتمالًا:
أن تموت في هجوم لسمك القرش.
أن تموت بسبب حطام طائرة متناثر.
يصل احتمال وفاتك في الولايات المتحدة بسبب حطام طائرة متناثر أعلى بـ30 مرة مقارنةً بوفاتك بسبب هجوم سمك القرش، ولكن نظرًا لأنَّ هجمات القرش تحظى باهتمام إعلامي أكبر، فإنَّنا نميل إلى الاعتقاد بأنَّها أكثر احتمالًا، وهو ما يُعرف باسم انحياز التوافر (3).
ومن غير الممكن حَصْر القدرات المطلوبة للوصول إلى التفكير النقدي في هذا المقال كافةً، فهي متنوعة بتنوع مجالات استعمال التفكير النقدي، ونذكر على سبيل المثال:
- القدرة على الملاحظة الدقيقة والقدرة على التعبير الدقيق عن هذه الملاحظات، ومعرفة العوامل التي تجعل ملاحظة المرء أقل جدارة بالثقة؛ مثل ضَعْف كفاءة الحواس أو الوقت غير الكافي.
- طَرْح الأسئلة بلغة واضحة وعلى نحو خالٍ من الافتراضات المُسبقة والانحيازات الشخصية، فعلى سبيل المثال، إنَّ نوعية الأسئلة من قبيل "لمَ برج الثور عنيدٌ؟" هي أسئلة تحمل افتراضات ضمنية (تفترض صحة الأبراج مسبقًا).
- التفكير النقدي يتطلَّب القدرة على الوصول إلى استنتاجات جديدة بناءً على المعلومات الموجودة، والقدرة على تحديد مصداقية هذه الاستنتاجات ومعرفة النتيجة التي تدعمها الأدلة والحجج المتاحة.
- يتطلَّب التفكير النقدي في مجال ما معرفة كبيرة في هذا المجال، والبحث عن المصادر الصحيحة وتقييم مصداقية المصادر.
- القدرة على التجربة ومعرفة كيفية إجراء تجارب سواء علمية أو في الحياة اليومية.
- القدرة على تحليل الحجج الداعمة للوصول إلى حكم منطقي خاص بالفرد.
- وجود مشاعر الحيرة والرغبة في المعرفة والسعادة عند الوصول إلى النتائج، كما يشعر الأطفال في سن مبكرة (1).
- سُمعة المصدر من حيث الموثوقية،
- أو إذا كان لدى هذا المصدر أية فائدة مباشرة من ادِّعائه (مثل شخص يحاول بيعكِ دواء على الإنترنت)،
- أو إذا وُجِد تأييد لهذا المصدر من مصادر مستقلة (مثل اتفاق المراكز البحثية على معلومة ما)،
- أو إذا كان المصدر يمتلك الخبرة والمهارة اللازمة (مثل شرطي يقدِّم دليلًا جنائيًّا)،
- أو في نوع الادِّعاء الذي يدَّعيه المصدر (كأن يدعي شخص بأنَّه شاهد معجزة ما)،
- وما إذا كان المصدر يقدِّم أسبابًا معقولة لادِّعائه (مثل شخص يدِّعي أنَّه شاهد فضائيين) (2).
وتؤدِّي الأوهام عادةً إلى مزيدٍ من الأوهام، فالأشخاص المؤمنون بالأبراج -مثلًا- أكثر عرضة للإيمان بالعلاج بالطاقة، ولا يقتصر الأمر على الحياة الشخصية للأفراد، فغياب التفكير النقدي يؤثر في العالم ككل، وعلى سبيل المثال، إن كنت لا تؤمن بانتصارك بحرب ما، فلن تشارك في هذه الحرب، وهذا ما حدث في الحرب العالمية الأولى؛ إذ اعتقد الناس من طرفي الحرب وبدافع التفاؤل الأعمى بأنَّ الحرب ستنتهي في غضون أشهر، وساد شعور عام بالنشوة والروح القتالية خاصةً بين الشباب الصغار قبل التوجُّه إلى المعارك، وسرعان ما تلاشى هذا الشعور بمجرد بداية الحرب واستمرارها فترةً أطول بكثير من المُتوقَّع (3).
المصادر:
2. Fisher A. Critical thinking: An introduction. 2nd ed. Cambridge: Cambridge University Press; 2011. Available at: هنا
3. Vlerick M. Critical and Scientific Thinking: A short introduction. Tilburg, the Netherlands: Tilburg Open Press; 2022. Available at: هنا