التعليم واللغات > الأدب والشعر
المواد الكيميائية في أدب أغاثا كريستي
ملكة الجريمة ذات الأعمال الأكثر مبيعًا بعد الكتاب المقدس وأعمال شكسبير، مؤلفة أكثر مسرحية عُرضت حول العالم بعنوانها المثير للاهتمام؛ مصيدة الفئران، المرأة التي انهالت على أعمالها الثناءات والجوائز والمكافآت، محبوبة الملايين كاتبتنا "الشعبية".
إنها أغاثا ماري كلاريسا كريستي (1890-1976)، التي لم تمنحنا فقط شخصية مشهورة واحدة، بل ألفت شخصيتين تُعدان من أكثر المحققين الخيالين شهرةً؛ هرقل بوارو و الآنسة ماربل.
. اعترفت بأنها لم تنتج أعمالًا رائعة من الأدب أو رؤى عميقة حول الحالة الإنسانية وسبر أغوارها، ولم تحاول صدم قرائها بالعنف المبرر. بل إنما ابتكرت كريستي العديد من شخصيات الضحايا في صفحات كتبها، وكانت ردات الفعل التي تبتكرها على الأرجح لخلق الفضول والابتسامة عند احتمال اكتشاف وجود أدلة. كانت حكاءة الحكايات، فنانة، وصانعة لألغاز التي تبدو مستعصية الحل.
استفادت كريستي من معرفتها التفصيلية بالأدوية الخطيرة في تطوير حبكتها الدرامية، فاستخدمت السموم في أغلب مؤلفاتها، أكثر بكثير من أي كاتب من معاصريها، وبدرجة عالية من الدقة.
كانت معرفة أغاثا كريستي بالمواد السامة استثنائية بالتأكيد، فقلة من الروائيين الآخرين من قرأ كمادة مرجعية لمختصين بعلم الأمراض عن حالات التسمم الحقيقي. جاءت معرفتها العلمية من خلال خبرتها المباشرة مع السموم، واهتمامها الواسع بالموضوع، ولكن … ليس بالمعنى الإجرامي (1).
لم تكن أغاثا كريستي قد وضعت في حسبانها العمل في مجال الصيدلة، وكان دخولها الوحيد في هذا المجال من خلال حصولها على شهادة بعد استكمالها لدورة الإسعافات الأولية والتمريض المنزلي للصليب الأحمر قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، والخدمة كممرضة في جناح المساعدة التطوعية في مستشفى الصليب الأحمر في توركاي لمدة عامين (2).
تظهر الكاتبة أغاثا كريستي وهي تعمل كموزعة في مستوصف مستشفى جامعة يونيفرسيتي كوليدج (University College) في لندن خلال الحرب العالمية الثانية. حاصلة على شهادة من جمعية دار العبادة للصيادلة في لندن لصرف الأدوية (مساعدة صيدلي).
الصورة من مجموعة مسرح ريموند ماندر وجو ميتشنسون The Raymond Mander & Joe Mitchenson Theatre Collection، لندن.
كانت تتمتع بشعبية كبيرة وإشادة نقدية بصفتها روائية في غضون الحرب العالمية الثانية، ووزعت دون الكشف عن هويتها الوصفات الطبية على رعاياها. وبعد اجتيازها بنجاح امتحان الترخيص للمزاولة؛ المكون من ثلاثة أجزاء في الكيمياء والمواد الطبية والصياغة، إثر ذلك أُهلت قانونيًا لصرف الأدوية تحت إشراف المسؤول الطبي أو الصيدلي. وعملت في صرف الأدوية في مستشفى الصليب الأحمر في توركواي في إنكلترا في الفترة الممتدة من كانون الثاني/يناير 1917 حتى كانون الأول/ديسمبر 1918، ومرة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن هذه المرة في يونيفرسيتي كوليدج في لندن. ورغم استمتاعها بعملها في صرف الأدوية إلا أنه لم يوازِ مستوى استمتاعها في عملها في مجال التمريض (3).
وتحدثت عن أنها تصورت فكرة كتابة قصة بوليسية في أثناء عملها في جناح المساعدة التطوعية في مستشفى الصليب الأحمر، فقد تحدتها أختها (مادج) قبل سنوات لكتابة قصة بوليسية، وكان هذا هو الوقت المناسب لقبول هذا التحدي. كانت هناك فترات ركود في المستوصف، حين "لم يكن هناك شيء يمكن فعله سوى الجلوس في غرفة محاطة بالسموم" (2).
فمن غرفة مليئة بالسموم قدمت أغاثا روايات فيها العديد من السموم والعقاقير عن طريق دسها في طعام الضحية وشرابها أو عن طريق حقنها. وفي جرائم القتل الخيالية هذه تجرعت الضحية السم، وبدت عليها علامات التسمم وحدثت الوفاة بتوافق مع الخواص الكيميائية للمادة المستخدمة. وكان للسيانيد (Cyanide) الحصة الأكبر، فهو السم الأكثر استخدامًا في روايات أغاثا البوليسية. يمكن للسيانيد أن يقتل في غضون دقائق عند ابتلاع جرعات كبيرة؛ فتحدث الوفاة بعد 30 دقيقة من ظهور أعراض التسمم، وذلك بسبب موت خلايا الجسم على نطاق واسع، ولكن بعض الأشخاص قد يعيشون فترة أطول وفي هذه الحالة يحدث الموت عادة في غضون أربع ساعات (1,4,5).
كان السيانيد سبب وفاة الضحية في كل من الروايات: السيانيد الساطع (Sparkling Cyanide)، وشرخ في المرآة (Mirror Crack’d from Side to Side)، وعشرة عبيد صغار (Ten Little Niggers)؛ أو بعنوانها الآخر 'ثم لم يبق أحد' (And Then There Were None). في حين استخدمت قلويدات التاكسين (Taxine Al-Kaloids) في رواية جيب مليء بالحبوب (A Pocket Full of Rye). ويرجح أن استخدام كريستي للسموم التي تعمل بسرعة كبيرة وتقتل الضحايا على نحو مفاجئ بهدف تعظيم الحدث الدرامي. وفي حين كان هناك ضحية واحدة في ’جيب مليء بالحبوب’، لوحظت سلسلة من جرائم القتل في كلٍ من: ’عشرة عبيد صغار’، و’السيانيد الساطع’، و’شرخ في المرآة’.
في رواية السرو الحزين (Sad Cypress) أُعطيت السموم عن طريق خلطها بمشروبات الضحايا، إذ ارتُكبت الجريمة باستخدام المورفين (Morphine) الذي خُلط مع الشاي. القاتلة في هذه الرواية -وهي ممرضة وظفت معرفتها في علوم الصيدلة- شربت من الشاي المسموم نفسه، لكنها حقنت نفسها بالأبومورفين (Apomorphine) مما جعلها تتقيأ ما تناولته (4,6). واستُخدم المورفين أداةً للجريمة في روايات أخرى مثل، الستارة: قضية بوارو الأخيرة (Curtain)، وفي النهاية يأتي الموت (Death Comes as the End)، إذ أُعطي السم بإضافته إلى مشروبات الضحايا (4).
كان هناك شخصية أخرى استخدمت سلطتها ومعرفتها بالطب لارتكاب جريمة قتل، وهي شخصية الدكتور روبرتس في رواية ’أوراق لعب على الطاولة’ (Cards on the Table)، إذ قتل ضحيته بحقنة من الإيفيبان (Evipan)، وهو دواء مُثبط كالمورفين اسمه العلمي هكسوباربيتال (Hexobarbital) كان يستخدم في أربعينات وخمسينات القرن الماضي في التخدير ولكنه استُبدل لاحقًا بمواد أكثر أمانًا، ومع ذلك فقد استخدم الطبيب روبرتس دواء يسمى فيرونال (Veronal) ليعطل حركة الضحية قبل الشروع بقتله من خلال جرعة الإيفيبان (4,7). قتل الدكتور روبرتس ضحاياه الآخرين بعصيات الجمرة الخبيثة (Anthrax Bacilli) وعن طريق لقاحات ملوثة بمُمرضات غير مُحددة (4).
مضغوطة فيرونال التي تحدثنا عنها سابقًا استخدمها القاتل لينتحر في رواية موت اللورد إيدجوير (Lord Edgware Dies)، وكانت عبارة عن مسكن ألم استخدم على نطاق واسع حتى منتصف القرن العشرين (4).
وبالانتقال إلى أول رواية مطبوعة نشرتها أغاثا كريستي ’قضية ستايلز الغامضة’ (The Mysterious Affair at Styles)، كان سلاح القتل الستركنين (Strychnine)، السُم المثالي، بسبب امتصاصه السريع وفعاليته العالية عن طريق الفم وقدرته على إحداث الموت بجرعات منخفضة. عند التسمم بالستركنين تبدأ الأعراض بالظهور بعد 15 إلى 30 دقيقة من تناول الستركنين، وتحدث الوفاة بعد ساعة إلى ثلاث ساعات من لحظة تناول هذا السم. وبهذا نجد أن الستركنين يوضع قريبًا من المستويات العليا في قائمة السموم المروعة! وفي روايتنا وُضع الستريكنين في عشاء الضحية، وحدثت وفاة الضحية في وقت لاحق من الليل بعد العشاء (1,4).
استُبدل الستريكنين بالزرنيخ في رواية ’قطار 4.50 من بادنغتون’ أو بعنوانها الآخر ’ماذا رأت السيدة إلسبيث,، فأعطي السم المُختار عن طريق إضافته إلى المشروبات، وذلك نظرًا إلى انعدام رائحة وطعم الزرنيخ وإلى سهولة انحلاله على وجه التحديد في المشروبات الساخنة مثل الشاي. ولكن على عكس ما يتبادر في المخيلة بأن القتل يترافق مع الموت المفاجئ حدثت الوفيات نتيجة التعرض المزمن (مدة طويلة) للزرنيخ. وجرت الأحداث كالآتي: بعد أن خنق القاتل ضحيته الأولى، استفاد من تدريبه الطبي للتخلص من ضحيتيه التاليتين؛ فأضاف كمية كافية من الزرنيخ إلى مسحوق الكاري الذي تستخدمه الأسرة في الطهي من أجل إحداث حالة تسمم خفيفة في جميع وجبات العشاء، ولكي تكون حالة التسمم بالزرنيخ من خلال الطعام أكثر إقناعًا ولإبعاد الشبهات عنه تلاعب بالأدلة وأضاف كمية إضافية من الزرنيخ إلى عينة الطعام التي كان ينقلها إلى مختبر الشرطة لتحليلها. وحين كان يرعى ضحيته المنشودة أعطاهُ جرعة قاتلة من الزرنيخ بدلًا من دوائه. فعُزيت الوفاة إلى حساسية الضحية الشديدة للزرنيخ الذي كانت قد تناولته في أثناء عشاء الكاري (3,4).
وفي رواية ’الحصان الأشهب’ (The Pale Horse) التي تضم حالات تسمم مزمنة تعرضت الضحايا لسم غير تقليدي وهو الثاليوم، تظهر في حالة التسمم هذه أعراض غير محددة مثل التعب ووعكات في المعدة، وذُكر أيضًا تساقط الشعر. وإن كمية تتراوح بين 12-15 مغ لكل كيلوغرام من وزن الجسم -وسطيًا ما يقرب من 1 غ- تشكل جرعة قاتلة للبالغين (1,3,4).
أما في رواية ’الشاهد الصامت’ (Dumb Witness) اختير سم لا يمكن التنبؤ به كسلاح للقتل. فكانت جرعات الفوسفور العالية (Phosphorus) السُم المُحير. خُلط السم في دواء لمرض كبدي كانت تتناوله الضحية واكتُشف سُم الجريمة من خلال توهجه المميز في الظلام. إن فترة ثلاثة إلى أربعة أيام تكفي لأن تؤدي إلى الموت بفشل الكبد بعد ابتلاع الفوسفور (1,4).
استخُدمت بعض النباتات السامة في روايات أغاثا كريستي البوليسية، ففي رواية ’جيب مليء بالحبوب’ قُتلت الضحية بالسيانيد، والتاكسينات المستخرج من نبات الطقسوس (Yew Plants). وفي رواية ’الأربعة الكبار’ (The Big Four) ساعد أحد الضحايا في حل جريمة القتل عن طريق الكتابة بحبر الياسمين الأصفر (Yellow Jasmine) على جريدته قبل وفاته. كان السم المذكور في الرواية هو جيلسمين (Gelsemine)، ومصدره الياسمين الأصفر. كان الياسمين الأصفر نباتًا ينمو في جميع أنحاء المنزل حيث توفيت الضحية. وفي رواية ’موعد مع الموت’ (Appointment with Death)، تبين أن الديجوكسين (Digoxin) -وهو دواء للقلب مشتق من نبات قفاز الثعلب- قد أُعطي بجرعات مميتة عن طريق الحقن (4). الحقن الوريدية للديجوكسين تكون لحظة بدء التأثير فيها بعد 5-30 دقيقة، وتستغرق الجرعات التي تعطى عن طريق الفم من 30-120 دقيقة (8).
رواية ’خمسة خنازير صغيرة’ (Five Little Pigs) أو كما تعرف أيضًا ’بالخمسة المشتبه بهم, و’رحلة إلى الماضي’ ذُكر المُستخلص النباتي الكونيين (Coniine) وهو مادة شديدة السمية بجرعة مميتة للبالغين بين 100-130 مغ. في هذه الرواية سُرق الكونيين من المختبر، وعثر عليه في كأس من البيرة كانت الضحية قد شربت منه (4,1).
وكمثل الكونيين الذي يستخرج من الشوكران (Hemlock) استُخدم أكونيتين (Aconitine) المستخرج من نبات البيش او قلنسوة الراهب (Monkshood) والمسمى أيضًا نبات خانق الذئب Wolfsbane) Plant) سلاحًا للقتل في ’قطار 4.50 من بادنغتون’، فقاتلنا الطبيب أرسل إلى ضحيته الثانية أقراصًا مهدئة مرفقة مع تعليمات بأخذ حبتين كل ليلة، ولكن وبعد وفاة الضحية، كشف تشريح الجثة أن هذه المضغوطات تحتوي على الأكونيتين شديد السمية والتي لا يجوز استخدامها داخليًّا وإنما حلها بالماء واستخدامها خارجيًّا! وفي رواية ’خداع المرايا’ (They Do It with Mirrors) كان للأكونيتين نصيب كسلاح الجريمة (3,4).
يسبب أكونتين الموت بسبب شلل القلب أو التنفس الذي يحدث خلال ساعتين إلى ست ساعات، ولكن الموت يكون لحظيًّا مع الجرعات الكبيرة. إن جرعة منخفضة (1-2 مغ) قادرة على أن تكون قاتلة (1).
وظهر النيكوتين (Nicotine) سمًّا استُخدم لقتل الضحايا في رواية ’مأساة من ثلاثة فصول’ (Three Act Tragedy) فالنيكوتين سم شديد المفعول، يمكن أن يقتل في أقل من أربع دقائق. يتراوح التقدير للجرعة الفموية المميتة بأكثر من 500 مغ (عشر نقاط أو أكثر من النيكوتين السائل) (1,4,9).
نبات آخر ذُكر في روايات كريستي هو نبات ست الحسن (أتروبا بيلادونا Atropa belladonna) المعروف بصفته مصدرًا للأتروبين ذي الأثر المُحاكي للجهاز العصبي نظير الودي الذي يسبب الهلوسة بالجرعات العالية. في رواية ’لغز الكاريبي’ (A Caribbean Mystery) أُضيف الأتروبين إلى المواد التجميلية للضحية وتسبب في كوابيس رهيبة. ولأن السُم استُخدم موضعيًّا لم يتوفَّ الشخص المسموم في هذه الرواية. إن الجرعات الصغيرة المنتظمة من الأتروبين يمكن أن تتراكم في الجسم وتؤدي إلى التسمم المزمن (4,1).
ومن المثير للاهتمام أن ترياق الأتروبين الفيزوسيتغمين (Physostigmine) استُخدم أيضًا وسيلة للقتل في رواية كريستي البيت المائل (Crooked House)ـ (4).
رغم أن أغاثا كريستي لم تكن المؤلفة الوحيدة التي استخدمت السموم في قصصها يمكننا القول إنها استخدمت مجموعة متنوعة من المواد الكيميائية في أعمالها على نحو أكثر إبداعًا من أي كاتبة روايات بوليسية أخرى (3). فيشعر القارئ معها بالمتعة لدى قراءته لأعمالها الأدبية التي تجمع بين رقي العلم وجمال الأدب.
المصادر:
2. Bardell EB. Dame Agatha's Dispensary. Pharmacy in History. 1984;26(1), :13–19. Available from: هنا
3. Gerald MC. Agatha Christie's Helpful and Harmful Health Providers: Writings on Physicians and Pharmacists. Pharmacy in History. 1991; 33(1): 31–39. Available from: هنا
4. Tırmıkçıoğlu Z. Poison and High Dose Drug as The Cause of Death in Detective Novels: A Comparison of Agatha Christie’s and Ahmet Ümit’s Works. The Bulletin of Legal Medicine. 2020;25(2):90–8. Available from: هنا
5. Jethava D, Gupta P, Kothari S, Rijhwani P. Acute cyanide Intoxication: A rare case of survival. Indian Journal of Anasthesia [Internet]. 2014 [cited 2023Apr25];58(3):312–4. Available from: هنا
6. Meara J ,CHAPTER 64 - Parkinsonism and Other Movement Disorders. In:Fillit M.H , Rockwood K, Woodhouse K. Brocklehurst's Textbook of Geriatric Medicine and Gerontology. Seventh Edition. W.B. Saunder, 2010. 511-519 [cited 2023May26]. Available from: هنا
7. Hexobarbital [Internet]. American Chemical Society. 2012 [cited 2023Apr22]. Available from: هنا.
8. TANEL E.R, LEVIN M. CHAPTER 13 - Pharmacologic Treatment of Heart Disease. In: Vetter L.V, Bell L. In The Requisites in Pediatrics. Mosby,2006 [cited 2023May26]237-275. Available from: هنا
9. Braillon A. Nicotine lethal dose: Ignorance or counterfeit? . The American Journal of Medicine [Internet]. 2015 [cited 2023Apr25];128(10), E69. Available from: هنا