كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
اللامنتمي (هو من يرى أعمق من اللازم وأكثر من اللازم)
إنه الشخص الذي يرى أعمق من اللازم وأكثر من اللازم.
هو الشخص الذي يرى أعمق وأكثر من اللازم ومعه لن يدع لك كولن هنري ولسن Colin Henry Wilson
(26 يونيو 1931–5 ديسمبر 2013) وهو ذاك الشاب البريطاني البالغ من العمر أربعاً وعشرين عاماً وآلاف الأسئلة الفرصة لأن تلتقط أنفاسك حتى يداهمك فصلًا تلو فصل بفضوله الباحث في شخصية لم يتطرق إليها سابقوه بهذه الكيفية من قبل؛ وعليه سيجبرك أن تأخذ بعين القارئ حتى تلك الروايات التي لم تسمع بها أو سمعت بها ولم تود أن تقرأها، فتكتشف بالتقادم أنك أمام استقصاءٍ داخلي غرضه أن يسبر أغوار تلك الشخصية بما تحمله من متناقضات لذا يدعو ولسن خيالاتك لأن تكون جاهزةً كمصب ليتدفق فيها شتى أصناف الأدب العالمي الذي سيبحث فيهم اللامنتمي طيلة فصوله التسعة.
فمع بداية "بلد العميان" -الفصل الأول لكتاب "اللامنتمي"- سيرمي إلينا برواية الجحيم فوق طاولة العقل قائلًا لنا هذا هو اللامنتمي، عبثٌ خام وترقب طويل بحثٌ لا طائل منه عن الجدوى والحقيقة ثم يتابع سيره وكأن شيئًا لم يكن، وما تلبث أن تدارك معه حتى تبدأ تساؤلات وِلسن انهمارها.
فهل "اللامنتمي" مرض أم بصيرة؟ يسأل كاتبنا بعد مناقشته لحالات العديد من الروايات وكتابها ثمَّ يعود ويسأل هل على كل لامنتمي أن يكون فنانًا أم أن كل فنانٍ هو لامنتمي؟ ليسحبنا معه إلى فصل الكتاب الثاني "عالم بلا قيم"، إذ يتابع في محاولة للإجابة عن الأسئلة التي طرحها واضعاً اللامنتمي على ثلاثة طرق؛ وهي (لامنتمي التجربة والعدم والعقل)، ثمّ يشرع دراسته في أدب كامو وهيمنغوي، فيناقشهما مناقشة تفصيلية ويقارن بينهما مقارنة شاملة لينتج عن هذا كله عدة محاور فلسفية مستقلة مثل(الحرية والحقيقة والدافع)، وحالما ترتبط هذه المحاور مع إرهاصات بطل كتابنا "اللامنتمي" ستضح فكرة ويلسن من هذا الفصل، فينطلق مباشرةً إلى البحث في حالة اللامنتمي عند الشعراء ليصل إلى الفصل الثالث "اللامنتمي الرومانسي"، ففي نهاية الفصل الثاني وبداية الفصل الثالث يركز ويلسن بحديثه عن شعور الإدراك العميق الذي يتملك الشاعر، وقد كان من أسباب هذا الإدراك حالة الخمول لديهم في القرن الثامن والتاسع عشر اللذين كانت تسودهما نزعة من التفاؤل والحماس غير أنَّ الشاعر على عكس الفلاسفة المذكورين في الفصول السابقة لا يستشعر الخطأ في الوسط المحيط بقدر ما يستشعر أنه كامنٌ فيه، وهذا ما يودي به إلى اللامنتمي الذي سيكون عليه.
يكشف لك كتاب اللامنتمي خبايا عالم الأدب برحلة من المناقشة والتحليل، كل ذلك وهو يركز على فكرة واحدة متشعبة ومضبوطة في آنٍ معاً بطريقة لا تشوبها سوى بعض التعقيدات التي بإمكان القارئ تفاديها إن كان مُطلعًا على عدد لا بأس به من الروايات والمسرحيات والقصائد المتضمنة في الكتاب، غير أنَّ هذا الكتاب، وبمنأى عن كونه يناقش فكرة الشخصية غير المنتمية لأي حزب أو دين أو طائفة كنطاق ضيق والغير متقبلة كنطاق واسع لهذا العالم الفوضوي والذي تسير فوضاه بنظام محدد؛ فإنه ملاذٌ لتناول بعض وجهات النظر الأدبية حيث يحلل الأعمال التي ندرس فيها حالة اللامنتمي بعين الناقد أيضًا، فيعطيك الحالة الكافية من فهم إحدى وجهات النظر الأدبية في صدد الروايات والقصص والمسرحيات والشعراء المذكورين.
يتابع ولسن في الفصل الرابع من تقصّيه في تقديره للكاتب والكتابة اللذان ساعداه في الوصول إلى نتائج الفصول الثلاثة السابقة ومؤكدًا أن الأدب الذي يبلور فكرة اللامنتمي لا يغني عن التجربة الحقيقية "للامنتمي الواقع"، وهذا ما يحتم عليه أن يأخذ بمنظاره ليسلّطه على ثلاث شخصيات حقيقية من هذا العالم، وهم على الترتيب (لورنس العرب وفان كوخ وفلازاف نجنسكي) فيسرد جزءًا من حياتهم الواقعية وبعضًا من مذكراتهم ثم يربط لنا كل ما ذكر بعقدة العبث الذي عايشوه وصولاً إلىى الجنون، وبوضع خط سير اللامنتمي في ثلاثة أنظمة، هي (العقلي والشعوري والجسدي)، سيكون في متناول أيدينا ما سيّر كل فرد من الشخصيات الثلاث في خط اللامنتمي آخذةً إياهم إلى البحث والضياع، ثم ينهي هذا الفصل في محاولة منه لفهم الرغبة والكيفية التي سيكفُّ بها اللامنتمي عن كونه كذلك.
ومع الفصل الخامس "فاصل الألم" يبدأ حديثه عن الحساسية المفرطة التي تعتلي اللامنتمي، مما سيصعب التعامل معها على أنها شيءٌ طبيعي، لذا يسهب ولسن في شرح النظرة المتبادلة بين المجتمع الواقعي واللامنتمي وصولاً إلى البحث في تعبيري التشاؤم لدى كافكا ثم إليوت وهكذا إلى نيتشه الذي سنصل وأياه مبدئيًّاً إلى حالة متفردة جمعت الأسباب الثلاثة من العقل والجسد والشعور وبخلاصةٍ هي حاجة اللامنتمي لاكتشاف أعمق أهدافه سنكون قد أمسكنا بطرف الخيط لمحاولة الإصلاح، وفي ضوء ذلك يبحر ولسن مع "المسألة الذاتية" للامنتمي والتي عنون بها بداية الفصل السادس من كتابه في خبايا هذه الشخصية موضحًا لنا رغبتها العارمة في الخلاص كأي مسجونٍ يريد التحرر.
ولكيلا يعيق سفينته من الإبحار كان عليه أن يكتشف أولًا ما يقيد اللامنتمي أي وضع الإصبع على ماهية ما يثقله حتى تولدت عنده هذه الرغبة في الخلاص، ومنه كان على عاتق ولسن أن يمشي مع القارئ إلى هاوية إحدى المعضلات الوجودية التي تؤرق الإنسان عامة واللامنتمي خاصة، ليسأل من هناك سؤاله العريض بلسان اللامنتمي "من أنا؟". ثمَّ يرجع بعدها مع القارئ إلى دائرة البحث في حاجة اللامنتمي لمعرفة ذاته وأسبابه للخلاص الذي وجد ثم وحد مفهومه بالدافع والفعل وليكمل هذا البحث فقد كان لدوستوفيسكي الباعُ الأكبر من هذا الفصل ومن الفصل الذي يليه دارسًا قصصه واللامنتمين الذين يجوبونها دراسةً تفصيليةً كما فعل مع سابقاتها حتى ينجلي بوضوح مفهوم دوستوفيسكي عن الحياة الذي وضع شقاء الإنسان في كفة ورغباته في الكفة الأخرى.
فماذا بعد يريد اللامنتمي؟ يجيب على هذا السؤال بأن يدعنا نكتشف مراده تباعًا في النجاة من التفاهة والفشل.
ثمَّ يستطرد الكاتب قاب خمسين صفحة فصله الثامن في الرؤى التي يراها اللامنتمي والحلول التي تحمله إلى رغباته فتخلقها، وللوهلة الأولى سنظن أننا على شفا فصل من الفانتازيا، وهذا ما لا يجب أن يكتمل ظنه حينما يمضي بحديثه عن أن الجواب الميتافيزيقي والديني لا يصلحان حلًّا لتلبية تطلعات اللامنتمي.
فاللامنتمي لا تغريه "أومن" بقدر ما تغريه كلمة "أعرف"، لكن هل الدين فعلًا ليس هو الحل؟!
ومنه فالرؤى هي الحقيقة التي يبدأ بها هذا الفصل وهي التي ستجلب لكل لامنتميه المعرفة على حدة في نهايته، والذي سينهيه بإلقاء اللوم على الضجر البشري والتفاهة ما لم يكن ذهن الإنسان منشغلًا عنه، وهذا ما سيوصلنا لاهثين إلى الفصل الأخير من كتاب كولن المسمى ب "تحطيم الحلقات المفرغة"، وقبل أن نلتقط أنفاسنا سيستهل فصله بمشهد انتحار مزدوج هارب من أحد قصص نيتشه، وعليه سينتاب عقلنا سؤال داخلي يتردد صداه في ذهن القارئ "أهذا ما يعنيه ولسن بالتحطيم؟ أهذا الخلاص الذي بحثنا عنه طيلة الفصلين الماضيين؟" ليتابع مع المناقشة والتقصي سبر هذا الفصل وتحويطه كما فعل مع سابقيه، فيرينا أن الحل ليس كما بدى لنا في الموت، إنما هذه وجهة النظر الخاصة بنيتشه فقط، وإن التحطيم الذي يقصده كاتبنا لهو تحطيم فعلًا، إنما لكل منتمي طريقته في الخلاص وأن يحقق الوحدة بين عالم الرؤى والواقع الذي فرَّ هاربًا منه، وبحسب ما تدفعه روحه الداخلية خارجًا -مثلما فعل عقله الذي أوصله إلى هذه العقدة بالفهم والوعي المتزايد- من النمطية التي يفرضها عليه مجتمعه وعالمه البرجوازيان
(والقصد هنا بالبرجوازي هو الاجتماعي الواقعي، وقد ذكرها ولسن كثيرًا في كتابه).
ينهي ولسن كتابه كما ينهي روائي غامض روايته بحفنة من الأمور المعلقة، جاعلاً من الحيرة أو ما يتبادر إلى ذهن القارئ لكنها وتدريجيًّا ما ستدعه يتأنى أمام مطبات التفكير ثمَّ ستأخذه إلى ملذة البحث والتعمق كطفل يريد المزيد.
معلومات الكتاب:
المؤلف: كولن هنري ولسن
المترجم: أنيس زكي حسن
الناشر: دار الآداب - بيروت
سنة النشر: الطبعة الخامسة 2004
عدد الصفحات: 334