الطب > طب العيون
الضوء الأزرق.. ضابط الإيقاع الأكثر خطورة
تطورت البشرية تحت ضوء الشمس، فمن خلال العين ينتقل إلينا ما يقارب ثمانين بالمئة من المعلومات عمّا حولنا، إذ أن هذا الصديق الأزلي للطبيعة والبيئة يوقظنا كل صباح ويتوهج وقت الظهيرة ثم لا يلبث أن يميل للون الأحمر مساءً ويبتعد مخلفًا الظلام.
كان هذا نظاماً كونيًا للطبيعة والبشر على حد سواء لملايين السنين، أما الآن فاختلف الأمر وباتت الأمسيات مضيئة في معظم بقاع الأرض.
فمنذ بداية القرن العشرين، بدأ الضوء الصناعي بالظهور والانتشار، وشاركت المصابيح المتوهجة الشمس بعملها، فأطلقت طيفًا ضوئيًا بدا مستهلكًا شرهًا للطاقة، ما دفع العلماء لابتكارات جديدة من المصابيح الموفرة للطاقة. وبالتوازي كان سباق التكنولوجيا على أشده وظهرت الشاشات المضيئة، ما سهَّل على الكثيرين أعمالهم وتفاصيل حياتهم، فبدأ الناس يقضون أوقاتًا طويلة على الحاسوب وأوقاتًا أطول في مشاهدة التلفاز وبصحبتهم هواتفهم الذكية التي يحملونها معهم دومًا (1).
الضوء الأزرق وشبكية العين:
إن طيف الضوء المرئي الذي ندركه بأعيننا يتدرج بين الأشعتين تحت الحمراء وفوق البنفسجية، وهذا التدرج -من منظور فيزيائي- عبارة عن اختلاف الطول الموجي للشعاع الضوئي في المجال بين ثلاثمائة وعشرين وسبعمائة وثمانين نانومتر. الجانب ذو الطول الموجي القصير والطاقة الأعلى في النطاق بين ثلاثمائة وثمانين وخمسمائة نانومتر وتراه أعيننا وتتعرف عليه باللون الأزرق الذي يشكل قرابة ثلث الطيف المرئي، ويساهم تفاعله الكيميائي مع المستقبلات الحسية في عيوننا بضبط الساعة البيولوجية أو إيقاعنا الحيوي، ولكن التعرض المفرط للضوء الأزرق يلحق ضررًا بالغًا في شبكية العين وفي بعض الوظائف الحيوية الأخرى؛ فكيف يحدث ذلك؟!
يدخل الضوء أعيننا عابرًا مجموعة من الأوساط الشفافة حيث القرنية في الأمام وخلفها الخلط المائي ثم عدسة العين وخلفها الخلط الزجاجي الذي يملأ كرة العين ليصل إلى محطته الأخيرة في مسيرته بوصفه الضوء وهي الجدار الخلفي لمقلة العين بشبكته المعقدة من الخلايا العصبية الحسية المستقبلة للضوء التي تُسمَى شبكية العين وتعمل على تحويل الضوء الى نبضات كهربائية تنتقل عبر السيالة في العصب البصري ثم الطريق البصري إلى مركز الرؤية في الدماغ (2).
إن شبكية العين محمية بطبقة من الخلايا الظهارية الصباغية تتركز قرب اللطخة الصفراء التي تشكل مركز الرؤية النهارية. هذه الطبقة تلتقط وترشح اللون الأزرق وتمنع إجهاد التأكسد الضوئي وتُسمَى النظارة الشمسية البيولوجية، لكن مستويات اللون الأزرق الزائدة تضاعف عملية إطلاق الأكسجين في الخلايا الحسية وهذه الأكسدة تؤدي إلى أذى كبير في الخلايا العصبية يشابه في آليته الخلل السرطاني وفي نتائجه الضمور البقعي المرتبط بالتقدم في العمر.
يمكن لأي ضوء أن يثبط إفراز الميلاتونين، المسؤول عن الاسترخاء والنوم في جسم الإنسان. وضع باحثون في جامعة هارفرد مجموعتين من الأشخاص في تجربة مجدولة زمنيًا لمراقبة تأثير اللون الأزرق فيهم. وبعد مقارنة تعرض الأشخاص في المجموعة الأولى للون الأزرق لمدة ست ساعات ونصف وتعرض المشاركين في المجموعة الثانية للون الأخضر ضمن الشروط نفسها، جاءت النتائج في الورقة البحثية على موقع الجامعة وكانت المفاجأة؛ فقد أحدث اللون الأزرق تثبيطًا في تحرر هرمون الميلاتونين لمدة زمنية تساوي ضعف التي حدثت في اللون الأخضر، أي احتاج لإطلاق الكمية نفسها من الهرمون عند المجموعة الأولى إلى ثلاثة ساعات مقابل ساعة ونصف فقط لدى المجموعة الثانية (2).
فلسميُّة الناتجة عن خلايا الشبكية المدمرة بفعل اللون الأزرق تأثير شديد الخطورة؛ إذ يمكنها تدمير أي نوع من الخلايا (3).
جدير بالذكر أن مشكلات العين والرؤية في آن معًا -التي يتسبب بها التعرض المفرط للضوء الأزرق- تؤثر في الراحة البصرية للعين ومركز الرؤية بالدماغ، ما ينعكس سلبًا على الإنتاجية المهنية للأشخاص، وقد ورد ذلك في دراسة أجراها البروفيسور مارك روزفيلد لدى جامعة نيويورك؛ ففد أكد أن ما نسبته بين أربع وستين وتسعين بالمئة من مستخدمي الشاشات الزرقاء من المعرضين للإرهاق البصري وحالات الإجهاد العيني والصداع والرؤية المشوشة أو الضبابية إضافة إلى جفاف العين، وقد أُطلِق على هذه الحالة متلازمة الرؤية عبر الحاسوب(4).
فقدان الرؤية؟ ليس بعد!
هكذا تركت جمعية البصريين الأمريكية الباب مواربًا وطرحت الموضوع بعنوان فقدان الرؤية.. ليس بعد. في هذه الدراسة، تُتهَم مراكز الإحصائيات والأبحاث بالمبالغة بالنتائج لحد كبير. كما وتطرقت إلى أن الحالة التي تصيب بعض المستقبلات في شبكية العين لا تحمل تأثيرًا تراكميًا. في المقابل يبقى التأثير الإيجابي للون الأزرق نقطة مضيئة يُعوَّل عليها، دوره الطبيعي في طاقة أجسادنا وإيقاعنا الحيوي ودوره المؤثر جزئيًا في ضبط الوظائف الحيوية الأولية في الجسم كالهضم وتنظيم الحرارة والتمثيل الغذائي وأبعد من ذلك أثره في مستويات إفراز الأنسولين ومن ثم مستويات سكر الدم (3).
على المستوى العالمي المشترك تراجع منظمات مثل اللجنة الدولية للحماية من الإشعاعات غير المؤينة الأدلة البيولوجية دوريًا وتحدد وتنشر مبادئ توجيهية توضح المستويات التي من غير المرجح أن تكون لها آثارًا صحية ضارة. إلى جانب ذلك، تُعدُّ مثل هذه المبادئ والتقارير مرجعية هامة لضبط وتقييم دور وأداء منتجي ومزودي وسائل الحماية من اللون الأزرق كالعدسات والفلاتر وتحسين جودتها. أما على مستوى الأبحاث الفردية والجماعية، يبدو الحل الوحيد لوقف إضاءة أدمغتنا باللون الأزرق من خلال الفلاتر البرتقالية وشاشات الحماية غير ممكن؛ إذ نحن بذلك كالذي يريد النوم، فيجلس في الظلام ويشرب القهوة (5).
تتوه أعين الباحثين في هذا الفضاء الأزرق لحمايتنا وتتراكم الأبحاث والدراسات في هذا البحر الأزرق لوقايتنا و نقرأ كل هذا في الظلام للحظات قبل نومنا وغالبًا قرب أنوفنا وفوق وساداتنا ونرسل إعجابنا ونغفو، أتفعلون ذلك؟!
جلَّ ما جرى اكتشافه اليوم كانت بذرته فكرة، وهل من فكرة تروض هذا الوحش الفيروزي المبهر؟
فكروا في ذلك وإن نسيتم أعيدوا قراءة المقال؛ فقد نسينا أن نخبركم أن الضوء الأزرق ينشط الذاكرة ويحارب الزهايمر.
المصادر:
2. Blue Light has a dark side. light at night is bad for your health, and exposure to blue light emitted by electronics and energy-efficient lightbulbs may be especially so [Internet]. Harv Health Lett. 2012 [cited 2023 Jun 24] ; 37(7):4. Available from: هنا
3. Zhao Z-C, Zhou Y, Tan G, Li J. Research progress about the effect and prevention of Blue Light On Eyes [Internet]. International Journal of Ophthalmology. 2018 [cited 2023 Jun 24]; 11 (12):1999. Available from: هنا
4. Rosenfield M. Computer vision syndrome: a review of ocular causes and potential treatments - Wiley Online Library [Internet].Ophthalmic and Physiological Optics .2011[cited 2023 Jun 23]; 31(5):502-515. Available from: هنا
5.Ziegelberger, *ICNIRP c/o BfS—G. ICNIRP Guidelines on Limits of Exposure to Incoherent Visible and Infrared Radiation. Health physics.2013[cited 2023 Jun 1-2 .105 (1) :1-2. Available from :هنا