التعليم واللغات > التربية والتعليم
دور التعليم في بناء السلام؛ كيف يتقاطع المجالان؟
لا شك في أنَّ التعليم مفتاحٌ رئيس لبناء مجتمعات سليمة من نواحٍ متعددة، إذ تعترف الحكومات والوكالات الإنسانية والباحثون بالتعليم على أنه أحد أكثر الأدوات فعالية لتيسير تفعيل السلام الإيجابي (1). لكن هل يمتد أثر التعليم ليصل إلى القدرة على بناء السلام؟ هناك تجارب متزايدة تبحث في كيفية تأثير الصراع في التعليم، وفهم متزايد لكيفية استجابة المعلمين للنزاعات (2).
لكن دعونا نتعرف أولًا إلى معنى مُصطلح التثقيف أو التعليم في مجال السلام (Peace Education) الذي عرَّفته مجموعة عمل التثقيف في مجال السلام في اليونيسف (UNICEF) على أنه عملية تعزيز المعرفة والمهارات والمواقف والقيم اللازمة لإحداث تغييرات في السلوك، التي من شأنها تمكين الأطفال والشباب والكبار من منع الصراعات والعنف ومن ثمَّ حل النزاع سلميًا وخلق الظروف المواتية لتحقيق السلام سواء على المستوى الشخصي أو بين الأشخاص أو المجموعات، وسواء أكان ذلك على المستوى الوطني أو الدولي (2).
ونظرًا إلى أهميته هذه يجب أن يؤدي التعليم دورًا أكثر مركزية في إستراتيجيات بناء السلام وينبغي أيضًا دمجه في جميع مراحل عملية بناء السلام (1).
لكن من الضروري الإشارة إلى أن التعليم قد يكون سلاحًا ذا حدين؛ ففي حين يؤكد الباحثون أن للتعليم دورًا في تعزيز التماسك الاجتماعي والتعايش السلمي وبأنه مكون حيوي للتنمية البشرية، وبأنه من خلال التعليم يمكن القضاء على الأمية وتعزيز مهارات الفرد وقدراته، لكن من جهة أخرى عندما يكون التعليم غير متكافئ ويُستخدم -على سبيل المثال- لتشويه سمعة الأقليات أو يتوفر من خلاله مستويات مختلفة من الدعم للأنظمة المدرسية فقد يُسبب انعدامَ التوازن الاجتماعي وانقسام مجموعات معينة مما يؤدي إلى نشوب صراعات (1).
في الحقيقة يُعد الافتقار إلى نظام تعليمي فعال أو وجود نسب كبيرة من الأطفال غير الملتحقين بالمدارس في المناطق التي تمر بفترة ما بعد النزاعات أمرًا ضارًا بجهود بناء السلام. وفي هذا الصدد أكد بعض العلماء الحاجةَ إلى أن يكون التعليم في مناطق الصراع وما بعد الصراع شاملًا ومراعيًا للاعتبارات الجندرية والتشاركية مع الأخذ بالحسبان أن غياب هذه السمات قد يؤدي إلى تفاقم النزاعات (1).
وإذ يُعد التعليم أمرًا محوريًا في عملية بناء السلام والحفاظ على قيم الأمن البشري وتعزيزها، بما في ذلك السلام والعدالة والديمقراطية والتسامح، فإن عملية البناء هذه طويلة الأجل ولا تنطوي على صنع السلام وحفظه فحسب، بل وتشمل أيضًا جهود التغيير والتحول المرتبطة بهذه العملية (1).
كيف يُساهم التعليم الرسمي السليم في بناء السلام؟
يُساهم التعليم الرسمي باستعادة إحساس الأطفال بالحياة الطبيعية وتعزيز نموهم المعرفي والنفسي والعاطفي.
توفر المباني المدرسية أماكن يمكن من خلالها تقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية للمجتمع مثل برامج التغذية والتطعيم للأطفال.
يرتبط التعليم ارتباطًا وثيقًا بالتحول الاجتماعي، فمن خلاله تُنشر القيم الأخلاقية وقواعد السلوك والمعايير والقيم المناسبة.
يساعد في تكوين الشخصية التي تُعد سمة اجتماعية أساسية.
يوفر التعليم الأساس الذي يمكِّن الأفراد والمجتمع من فهم أنفسهم وبيئتهم مما يوفر بدوره أساسًا للأمن السياسي والتنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
تُعزز القيمُ الاجتماعية والأخلاقية والثقافية والروحية التي يغرسها التعلم، التي تنتقل من جيل إلى آخر، التعايشَ بين الأجيال القادمة (1).
في حين أنَّ هناك بعض وجهات النظر التي تؤكد أن التعلم الرسمي يساهم في تطوير الأيديولوجيات الإيجابية بما في ذلك مفاهيم مثل بناء الدولة ووجهات النظر المعتدلة هناك آراء أخرى ترى بأنه قد يؤدي التعليم دورًا سلبيًّا في الصراع العرقي، وهو ما يحدث عندما يخلق التعليم حالة من عدم المساواة ويؤجج الصراع ويعزز الأدلجة التي يمكن أن تؤدي في الحالات المتطرفة إلى تلقينٍ سياسي. وبالإضافة إلى ذلك فإن إقصاء أنظمة التعليم لمجموعات معينة واستبعادها من الفرص الاجتماعية والاقتصادية التي يوفرها التعلم يُثير مخاوف حيال قضايا المساواة، ما قد يساهم بالنتيجة في نشوب الصراعات (1).
يتفق الباحثون وواضعو السياسات على أن التعليم الجيد والمتاح بإنصافٍ وبمراعاةٍ للنزاعات أمر بالغ الأهمية لتعزيز السلام والبيئات الآمنة. ولكن تُعد نظريات التغيير التي يُساهم من خلالها التعليم في عمليات بناء السلام غير واضحة تمامًا. والمثير للاهتمام هو أنَّ متغيرًا رئيسيًّا واحدًا -وهو في هذه الحالة الصراع- يؤثر في فعالية التعليم في مجال السلام؛ إذ تُسبب الصراعات العنيفة كالحروب خسائر فادحة في مجال التعليم مما يجعل التعليم في بعض الحالات غير ممكن فتُصبح عملية التثقيف من أجل السلام أمرًا مستحيلًا. لذلك يُعد فهم كيفية تأثير الصراع في التعليم أمرًا مهمًّا جدًّا في تحديد فعالية التعليم في مجال السلام، وهو ما يمكن الوصول إليه من خلال توعية وتنمية مناهج تعليم السلام في الأوساط التعليمية الرسمية وغير الرسمية. وهُنا يرى بعض الباحثين أنَّه لا يوجد منهج نموذجي للتثقيف من أجل السلام؛ بل في الحقيقة يُكيَّف كل مشروع خاص بالتعليم في مجال السلام مع كل من الظروف المحلية ومتطلبات التمويل. عادةً ما يتضمن التثقيف في مجال السلام موضوعات مثل مناهضة العنصرية وحل النزاعات والتعددية الثقافية وغرس آفاق سلمية عمومًا (2).
عبَّر المجتمع الدولي صراحةً على مدار أكثر من عقد من الزمن عن أن تحقيق أهداف التنمية العالمية يعتمد على مدى إمكانية الحصول على التعليم الجيد في السياقات والأمكنة المتأثرة بالنزاع. كما وسَّعت الأمم المتحدة عام 2015 أهداف التنمية المستدامة (SDGs) لتشمل التعليم العالي. وعلى الرغم من أن تحصيل التعليم العالي أمرٌ بالغ الأهمية وعامل رئيس يساهم في تغيير فرص الحياة وتنمية المجتمعات المحلية غالبًا ما يُنظر إليه على أنه ترف وليس ضرورة في الأماكن المتأثرة بالنزاع (3).
ومع وجود أبحاث تُشير إلى عدم حصول الملايين من الأطفال على التعليم المدرسي سواء في المرحلة الابتدائية أو الثانوية في المناطق المتضررة من النزاع، نستطيع فهم الأثر السلبي الذي يخلفه الأمر في مرحلة التعليم العالي كون الوصول إليها يعتمد على إكمال السنوات السابقة. لذلك تعدُّ الصراعات والنزاعات إحدى أكبر العقبات أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030 (3).
دور المعلمين في تعزيز ثقافة السلام
يؤدي المعلمون دورًا رئيسًا في تيسير عملية السلام وذلك من خلال سعيهم لإنشاء فصول دراسية يشعر فيها الجميع بالاحترام والقبول والحرص على جودة العلاقات التي يشكلونها مع طلابهم.
فهُم من يهيئون المناخ في الفصل الدراسي ويحددون الطريقة التي يتفاعل بها الطلبة مع بعضهم بعضًا، ويرسخ المعلمون لدى الطلاب أنهم مهمون وأن لهم رأيًا. وسواء أكان تواصلهم مع الطلاب لفظيًّا أو غير لفظي يوجه المعلمون الطلبة نحو كيفية التحدث مع بعضهم بعضًا والاستماع وتنظيم المشاعر في المواقف العصيبة. كشفت دراسة سابقة عن مقابلة مع 24 شابًا وشابةً يواجهون تحديات حياتية، وذكر كل منهم على الأقل معلمًا أو معلمةً ساهموا في نجاحهم من خلال زيادة الوعي تجاه أفكار التعايش والسلام. وشدد نصف هؤلاء الشبان والشابات على أهمية وجود معلمين مدركين لأثر الفقر في حياتهم اليومية. وتضمَّن الدعم الذي قدمه المعلمون تسهيلات مثل تزويد الطلاب بفرصٍ لإكمال الواجبات المنزلية في المدرسة والتأكد من حصول الطلبة على اللوازم المدرسية وإعطائهم مساحة لمشاركة قصصهم وتزويدهم بالطعام طوال اليوم. وعلى الرغم من أن ظروف الأطفال الذين يعيشون في فقر تختلف عن أولئك الذين يفرون من الحرب فقد يكافح كلاهما من أجل تلبية احتياجاتهم الأساسية ويمكن للمدرس الداعم أن يُحدث فرقًا عميقًا.
يبدأ الدور الذي يشغله المُدرسون في بناء السلام من القاعة الصفية حيث يعززون التنوع ويمنعون العنف ويشجعون الحوار، ما يساهم بتطوير مهارات التواصل لدى الأطفال التي تمكنهم من التعبير عن احتياجاتهم واستكشاف هوياتهم واكتشاف احتياجات وتجارب الآخرين. ويعي الأطفال عند مشاركة أفكارهم وقصصهم أنهم ليسوا وحدهم في خوفهم وضياعهم ويتعلمون التسوية وحل المشكلات. ومن خلال منح الأطفال هذه الحرية في التعبير والمشاركة يعلمون أن الكبار يعانون أيضًا مشكلاتٍ ترتبط بالحرب والعنف والأخلاق. لذلك تعد هذه المساحة التي تمنح الشجاعة للأطفال -تحديدًا ممن عانوا الحرب أو العنف- أمرًا مهمًا كونها تجعلهم يشعرون بأنهم أقل عزلة وأكثر ارتباطًا بمن حولهم (4).
إعداد: Mohammed K. Mohammed
المصادر: