التعليم واللغات > اللغويات
نظرية هاليداي في كيفية تعلُّم الطفل اللغة
نظرية هاليداي في كيفية تعلم الطفل للغة
عندما يبدأ الأطفال بتعلُّم اللغة؛ لا ينخرطون بصيغة معينة من التعلُّم فحسب؛ وإنما يبدؤون بتعلُّم أساسيات التعلُّم نفسها. ما يُعدُّ سِمَةً مُميَّزة في تعلُّم اللغة هو عملية قائمة على إنتاج معنى؛ وهو ما يُعرف بالعملية السيميائية (Semiotic Process)؛ إذ إنَّ الشكل النموذجي للسيميائية البشرية يتمثَّل في اللغة. ومن ثم فإن نشأة اللغة وتطورها ليس إلا تطوُّرًا في التعلُّم في الوقت ذاته (1).
ينشأ الأطفال في عالم غنيٍّ بالمفردات اللغوية، فهم يسمعون اللغة لكي يستخدموها في التعبير عن المعاني التي في بالهم. وكلما ازداد استخدامهم للغة؛ يتطور تعلُّمهم لها ولكلماتها وأنماطها؛ الأمر الذي سيساعدهم في تحقيق أهدافهم المرجوَّة (2).
ناقش عديدٌ من علماء اللغة السؤالَ المرتبط بكيفية تعلُّم الطفل الكلام على مدار أكثر من نصف قرن، ونستطيع القول بأنه ليس للأمر تأثيرات تندرج في مجال التعلُّم فحسب؛ بل تمتدُّ لتشمل طبيعة اللغة نفسها (3). ويُعدُّ عالم اللغة البريطاني مايكل هاليداي (Michael Halliday 1925-2018) من الذين طرحوا نظريات وأفكار ثاقبة في هذا المجال، وله إسهاماته العديدة في كلٍّ من اللغويات النظرية والتطبيقية التي لم توسع فهمنا للغات فحسب؛ بل أثَّرت أيضًا بعمقٍ في تخصصُّات التعليم، لا سيما في مجال تدريس اللغة الإنكليزية (ELT). يشتهر هاليداي بأنموذجه الشامل للغة المعروف على نطاق واسع باسم اللغويات الوظيفية النظامية (Systemic Functional Linguistics).
(4)
لكن ماذا عن نظريته للكيفية التي يتعلًّم الطفلُ من خلالها؟
تعود نظرية هاليدي في الأساس إلى وصفه الكيفية التي تعلَّم من خلالها ابنُه نيجل التحدث، ثُم دُعِّمَ العمل بدراسات لاحقة للغة الإنكليزية ولغات أخرى ومنها الصينية. سجل هاليدي تطور اللغة عند طفله بَدءًا باللفظ والتشديد وصولًا إلى نبرة الكلام، وبدأ بالعمل على هذه الفكرة عندما كان نيجل صغيرًا جدًّا، في وقت كان لا يزال يقول عديدٌ من اللغويين بأنَّ الطفل "لا يمكنه التحدث بعد!" (3).
تعمَّد هاليدي استخدام كلمة "تعلُّم" اللغة أكثر من كلمة "اكتساب"، فبحسب هاليداي تُبنى اللغة من خلال التفاعل والتواصل مع الآخرين؛ أي إنها ليست شيئًا موجودًا في مكان ما وبإمكانك أن تكتسبه. ويُضيف هاليداي أنه: "إن كان هناك أي شيء يمكن للطفل اكتسابه فهو قدرته على تحقيق المعنى المُراد". كذلك ويعتقد هاليداي أنه ليس علينا أن ننتظر الوقت الذي يصبح فيه الأطفالُ قادرين على قول كلمات مفهومة كي نستطيع دراسة لغتهم؛ إذ برأيه يبدأ الأطفال بتكوين معانٍ قبل قولها بوقت طويل. وعلى الرغم من صعوبة فَهم ما يقوله الأطفال قبل البَدء باستخدام كلمات مفهومة -وذلك كون لغة الأطفال والمعاني التي يستخدمونها مختلفة عن تلك التي يستخدمها البالغون-؛ إلا أن هاليداي سعى في بحثه في الأمر إلى الإجابة عن أسئلة عديدة؛ أهمها: "ما الوظائف التي تؤديها اللغة في حياة الرضيع؟" (3)
قدم هاليداي وصفًا للمراحل الثلاث التي يمرُّ بها الأطفالُ في أثناء تعلُّمهم اللغة، لذا دعونا نُلقي نظرة دقيقة عن كثب على هذه المراحل.
المرحلة الأولى: النظام اللغوي الأول
يمرُّ الأطفالُ بعمر الستة أشهر إلى ثمانية عشر شهرًا بهذه المرحلة، وسنذكر سبعة أهداف أو وظائف رئيسية يستخدم الطفل اللغة من أجلها في هذا العمر وتُسمى بالوظائف التطورية؛ والجدير بالذكر أن اللغة والتراكيب الصوتية التي تصدر من الأطفال في هذه المرحلة ليست مرتبطة بلغتهم الأم (3). هيا بنا نلقي نظرة على بعض هذه الوظائف:
1. الوظيفة الذرائعية (Instrumental function): أحد الأسباب المُهمَّة التي تقود الأطفال إلى استخدام اللغة هو الحصول على ما يريدونه. حتى وإن كان الأمر الذي يرغبون فيه أمامهم وواضحًا إلا أنهم يستخدمون مجموعة معينة من الأصوات للتعبير عن رغبتهم في شيء ما (3,2)
2. الوظيفة التنظيمية (Regulatory function): هي وسيلة يستخدمها الطفل للتحكم في سلوك من حوله، وتشمل إصدار الأوامر أو حتى التلاعب بالآخرين والتحكم بهم. والفرق بين الوظيفة الذرائعية والتنظيمية هو أن تركيز الطفل يكون مُنصبًّا في الأولى على الشيء، في حين يتحول جُلّ تركيزه في الأخيرة على شخص محدَّد. في الحقيقة تُعدُّ اللغة التنظيمية الإيجابية مهارةً حياتيةً يجب أن يعرفها كلُّ مُربٍّ أو مالك متجر أو حتى إداري. (2,3)
3. الوظيفة التفاعلية (Interactional Function): التي قد تتضمَّن إلقاءَ التحية أو الاستجابة عند المناداة. يستخدم الأطفال اللغةَ التفاعليةَ لإنشاء العلاقات الاجتماعية التي يحتاجونها. ولكي ينجح الأطفال عندما يكبرون بخوض النقاشات وإنشاء علاقات وبالمزاح مع الآخرين قبل الاجتماعات؛ فهم بحاجة إلى تنمية وعي مريح لديهم بقدرتهم على استخدام اللغة لبناء علاقات اجتماعية مع أشخاص آخرين والعمل بتعاون معهم (2,3).
4. الوظيفة الشخصية (Personal Function): التي يستخدم من خلالها الأطفالُ اللغةَ للتعبير عن شخصياتهم ومشاعرهم وآرائهم، وقد يظهر الأمر جليًّا عندما يصدر الأطفال أصواتًا أو نوعًا من الضجيج ليُعبِّروا عن إعجابهم بشيء ما أو لأنَّ مذاق الطعام كان لذيذًا. في الحقيقة، يُمنع استخدام اللغة الشخصية في كثير من الأحيان في الصفوف بسبب الاعتقاد بأنها غير ملائمة، على الرغم من أنَّها الطريقة التي من خلالها يربط الطفلُ حياتَه بالموضوع المطروح (2,3).
5. الوظيفة التخيلية (Imaginative Function) تُستَخدم اللغة هنا لخلق عالم خاص بالشخص والتعبير عن الخيال من خلال الكتابة الإبداعية للقصص والشعر والمسرح، وتتعزز وتزدهر هذه الوظيفة في الروضة. وفي حال لم يُشجَع الأطفال على استخدامها في هذه المرحلة العمرية؛ ستزول اللغة التخيلية في الأعوام اللاحقة (2).
6. الوظيفة الاستكشافية (Heuristic Function): تظهر في سنٍّ مبكرة عندما يسأل الأطفال عن أسماء الأشياء، ليتطور الأمر بعد ذلك فيتحول السؤال عن أي شيء إلى "لماذا؟" (3).
7. الوظيفة الإخبارية أو الإعلامية (Informative Function): تُستخدم اللغة لتوصيل المعلومات أو الإبلاغ عن الحقائق.
وقد يتساءل البعض لماذا أتت الوظيفة الإخبارية في المرتبة الأخيرة بين وظائف اللغة لهذه الفئة العمرية (ستة أشهر إلى ثمانية عشر شهرًا)؟ حسنًا، الأمر ليس صدفةً؛ بل إن السبب الحقيقي وراء الأمر هو أن هذا الاستخدام للغة يعدُّ فكرةً معقَّدة إلى حدٍّ ما؛ فعلى سبيل المثال لا تملك الطفلة في هذا العمر القدرة اللغوية التي تخولها أن تُخبِرَ والدتها عن النشاطات التي فعلتها مع والدها في خلال النهار. في الحقيقة، يكون التركيز أكثر على هذا الاستخدام للغة في المدرسة ومن قبل المعلمين على نحو متكرِّر، إلا أنّ الوظيفة الإخبارية للغة لا تتمحور حول تذكُّر المعلومات فحسب، وإنما يجب أيضًا منح أهمية متساوية لمساعدة الطلبة على تجميع المواد واستخلاص الاستنتاجات (2,3).
ركزنا في هذا الجزء من المقال على المرحلة الأولى وسنُسهب في الجزء الثاني في الحديث عن باقي المراحل، ونتعمق في آراء العلماء اللغويين وتفسيراتهم فيما يخصُّ نظرية هاليداي.
المصادر: