الفنون البصرية > عالم السينما والتلفاز
التعبيرية الألمانية في السينما: حالة انفعالية قاتمة
يشمل مصطلح التعبيرية الألمانية أفراداً ومجموعات بمقاربات فنية متنوعة، سلكوا مسالك مختلفة بهدفٍ واحد، وهو خلق أسلوب جديد يرتكز على التعبير الشخصي المكثف، رافضين القيم المجتمعية البرجوازية الجامدة والعادات البالية التي فرضتها الأكاديميات الفنية الممولة من قبل الحكومة، واتجهوا نحو أشكال جريئة وبسيطة أو مشوهة ومبالغ بها، الى جانب الألوان المتضاربة، وتعمد مفاجأة المتلقي (1).
ظهرت الملامح الاولى لهذه الحركة مع بداية القرن العشرين في ألمانيا، إذ اتسمت تلك الفترة بالفوضى الاقتصادية، والأزمات السياسية والعسكرية وتغيّر في ديناميكية البنية الطبقية في المجتمع، مما ترك أثراً سايكولوجياً في فناني العصر (2)، الأمر الذي دفعهم إلى اللجوء إلى فنٍ يعبر عما يجول في دواخلهم وعقولهم بدلاً من تصوير الواقع المرئي (3).
لكن التعبيرية الالمانية لم تقتصر على الفن التشكيلي فقط، بل تركت اثراً في العمارة والأدب والموسيقى والمسرح إضافةً إلى السينما (4)، كانت السينما التعبيرية على مثال الحركة الفنية، تبتعد عن الواقعية لصالح تقديم واقع مشوه يضيء على مخاوف ومشاعر وأفكار العقل الباطن (5). إذ غالباً ما تناولت حبكات الأفلام التعبيرية الجنون والخيانة (4) ولجأوا -مثل ما في لوحاتهم- إلى المساحات والأبعاد المشوهة وغير الواقعية (6) والأجواء السريالية، والشخصيات المنفرة، إضافةً إلى زوايا الكاميرا الغريبة والتباين الحاد في الإضاءة والظلال أو الألوان إن وجدت، فكانت مرآة مظلمة عكست واقع حال النفس الألمانية (5).
تجاوزت التعبيرية حدود ألمانيا وقطعت البحار وصولاً الى هوليوود مع أفواج المخرجين الذين لجؤوا الى اميركا هرباً من النازية ومن أهوال الحرب (4). أحد هؤلاء المخرجين هو فريتز لانغ (Fritz Lang)، الذي وصل إلى أميركا عام 1999 محملاً بإحساسٍ بصري مميز، ومطارد بالأجواء الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية (5).
عام 1927، قبل مغادرته ألمانيا، أخرج لانغ فيلم (Metropolis) من كتابة زوجته (Thea von Harbou)، الذي يتناول رؤية كابوسية لمدينة مستقبلية مستوحاة من برلين، ويعد الآن تحفة كلاسيكية ورائد السينما الديستوبية والتعبيرية الألمانية (7). برزت ملامح سمات التعبيرية في أعمال أخرى للانغ، وذلك في رائعته "شهادة دكتور مابوس" ( The Testament of Doctor Mabuse,1933) إذ تبلورت العلل والأمراض النفسية في الشخصيات، وامتد الأمر ليشمل النمط البصري للفيلم (5).
تأثر العديد من المخرجين الأمريكيين آن ذاك بالخيارات الفنية التي برزت في الافلام التعبيرية، مثل تود براونينغ في فيلمه (Dracula 1931) الذي استعار بوضوح منها، إذ تميّز بأجوائه المظلمة والقوطية، إضافةً إلى ألفريد هيتشكوك، الذي كان له دور محوري في استيراد السينما التعبيرية بعد تعمقه بتقنياتها خلال إقامته في ألمانيا بين عامي 1924 و 1926.
استمرت التعبيرية الالمانية إلى يومنا هذا بالتأثير في عالم الإنتاج السينمائي، إذ يُعدّ تيم برتون ( Tim Burton ) مايسترو التعبيرية المعاصر، فبرع في تسخيرها وطرحها في أعماله من تصميم المكياج الغريب في (Edward sissorshands,1990) و (Beetlejuice,1988 ). ويظهر أيضاً التأثير الكبير للتعبيرية في تحفة لمارتن سكورسيزي (Shutter Island 2010 )، المليئة بالصدمات الجنونية والحساسيات القوطية المفزعة (5).
كان هروب لانغ ومعاصريه وتخليهم عن أموالهم في ألمانيا ونقلهم للفن التعبيري إلى هوليوود واستثمارهم فيه ليمتد أثرهم إلى صانعي الأفلام المعاصرين، نقطة تحوّلٍ أسست لأنواع وأصناف سينمائية مميزة، مثل الخيال العلمي وال (Film Noir)، وأغنت انواع سابقة، مثل الرعب النفسي والإثارة، وبذلك تركت اثراً بالغاً يمتد الى يومنا هذا، وغيرت ملامح السينما للأبد (5).
المصادر: