الفيزياء والفلك > فيزياء
الوعي في فيزياء الكوانتم
منذ قديم الأزل يحاول الإنسان الوصول إلى تعريفٍ دقيقٍ للوعي البشري، ومع تطور العلم تعددت الفرضيات التي وضعها العلماء ولم نصل إلى التعريف الدقيق الذي يشمل مفهوم الوعي من جميع الجوانب. ومع ظهور الفيزياء الكمومية في مطلع القرن العشرين، أثبت المجتمع العلمي عدة فرضيات بالتجربة قد تبدو مخالفةً للمنطق، وعلى الرغم من غرابتها فإنها قد تساعدنا على الوصول إلى تعريفٍ للوعي البشريّ، أو حتى وعي الكائنات عمومًا.
يُفسَّر الوعي عادةً بأنه حالة من الإدراك لأنفسنا ومحيطنا، ولكن هذا التعريف ليس شاملًا دقيقًا، إذ ما زال الغموض يلتبس الوعي في الفلسفة وعلم النفس لأننا نحاول الوصول إلى ما يربط حالتنا العقلية الواعية بالدماغ، ويبقى السؤال: هل يمكن تفسير الوعي في سياق أنشطتنا الدماغية؟
تُعد نظرية الكم من أنجح النظريات العلمية التي صِيغَت على الإطلاق. ومع ذلك، بينما يسمح لنا الوصف الرياضي بالوصول إلى نتائج تجريبية دقيقة، فإن النظرية لا تتوافق مع مفاهيمنا التقليدية (1).
في محاولة لفهم الارتباط بين الوعي والفيزياء الكمومية، لنُعَرِّف الفيزياء الكمومية بشكلٍ موجز. الفيزياء الكمومية: هي علم الجسيمات النووية الدقيقة الذي يفسر سلوك المادة وعلاقتها مع الطاقة على مستوى ذري، ومن خلالها سنكون قادرين على فهم بنية الكون من ناحية الجزيئات والطاقة.
تحل الفيزياء الكمومية مشكلة الوعي القديمة التي تقول إن الطبيعة في الأساس مكونة من جسيمات أو مكونات متماثلة، ويأتي السؤال هنا كيف يمكننا ربط الجسيمات المنفصلة إذ يكون كل جسيم عنصرًا معزولًا من الواقع في تجربة متكاملة في الوعي؟ نتجنب هذه المشكلة عندما ندرك أن الجسيمات هي إحدى الإثارات الكمومية، وأن تجربة الوعي تتطلب إثارةً متناغمةً لمجالٍ واحدٍ فقط، تنشيطٌ غنيٌ اعتباطيٌّ في شبكة الدماغ لديه نفس الواقعية الفيزيائية كتنشيط جسيمٍ واحدٍ، إلكترون أو فوتون (2).
ولنتعمق أكثر في بعض مفاهيم الفيزياء الكمومية التي حاولت تفسير الوعي، كمبدأ الريبة ومبدأ اللاحتمية.
وفقًا لمبدأ الريبة (Quantum Uncertainty)، لا يمكن قياس موقع وزخم الجسيمات في الوقت نفسه بدقة تزيد عن تلك التي يحددها ثابت بلانك، ويحدث ذلك لأنه في أي قياس لجسيم، يجب أن يتفاعل الجسيم على الأقل مع الفوتونات أو كمّات الطاقة التي تعمل في صورة جسيم أو موجة، مما يشوش الجسيم بطريقة لا يمكن التنبؤ بها أو التحكم فيها (1).
يُمثَّل النظام الكمي رياضيًّا بواسطة الدالة الموجية المشتقة من معادلة شرودنغر Schrödinger، ويمكن استخدام هذه الدالة لحساب احتمالية العثور على جسيم في نقطة معينة في المكان، وعند إجراء قياس ما للجسيم سنجد الجسيم في مكان واحد فقط، ولكن إذا افترضنا أن دالة الموجة توفر وصفًا كاملًا وحرفيًّا لحالة النظام الكمي، فسيعني ذلك أن الجسيم يندمج فيما بين القياسات على شكل "تفاوت من الموجات الاحتمالية"، أي من الممكن أن يكون الجسيم موجودًا في عديدٍ من الأماكن المختلفة في الوقت ذاته، وعند إجراء القياس التالي يُفترض أن هذه الحزمة الموجية ستنهار بطريقة عشوائية إلى جسيم متمركز مرة أخرى (2).
ونُعرِِّف الواقع المطلق على أنه حالة الواقع المادي الموجود قبل أو حتى دون فعل الإدراك، ومن خلال فعل إدراكنا الناتج عن قدراتنا الحسية والإدراكية، نختزل هذا الواقع إلى واقعٍ ملموس. قدراتنا الحسية التي ندرك بها العالم تتضمن آليات اختزالية تحوِّل الواقع الفعلي إلى واقعٍ محدود.
إذ يفترض نموذج الاختزال الموضوعي المنظم (Orch-OR) إلى حدٍّ ما كيفية اختزال أي تفاعل بين شيئين إلى تجربة ذاتية. ووفقًا لهذه النظرية، يُولد الوعي في المستوى الكمي عن طريق عملية فيزيائية تنظمها هياكل النُبيبات الدقيقة داخل عصبونات الدماغ (3).
وبهذا يرى بعض علماء الفيزياء النظرية أن الوعي يؤدي إلى انهيار الموجة وبالتالي خلق الواقع، وهنا لا يتجسد الجسيم بخصائص محددة عندما يتفاعل مع أجهزة القياس ولكن عندما تُسجَّل قراءة الجهاز في عقل المراقب، ولهذا يمكن للكائنات ذاتية الوعي -مثلنا- دون غيرها، أن تنهي انهيار وظائف الموجة.
أما اللاحتمية الكمومية فهي تفتح الباب أمام التفسيرات المختلفة: إما أن تعني وجود أسباب مخفية بالنسبة إلينا، أو الغياب التام للأسباب. الرأي الذي يقول بأن بعض الأحداث تحدث فقط دون سبب على الإطلاق من المستحيل إثباته، لأن عدم قدرتنا على تحديد السبب لا يعني بالضرورة عدم وجود سبب. يشير مفهوم الفرصة المطلقة إلى أن النظم الكمومية يمكن أن تتصرف تصرفا تامًّا دون أي سبب، معزولة تمامًا عن أي تأثير خارجي في الكون. أما الرأي المعارض فيقول إن جميع النظم تشارك باستمرار في شبكة معقدة من التفاعلات السببية والترابطات على مستويات مختلفة.
تتصرف النظم الكمومية الفردية بطريقة غير قابلةٍ للتنبؤ، ولكن إذا لم تكن تخضع لأية عوامل سببية على الإطلاق، فسيكون من الصعب فهم سبب ظهور التكرارات الإحصائية في السلوك الجماعي للجسيمات.
أما مبدأ السببية فيشير إلى أن لكل شيء سببًا، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن جميع الأحداث بما في ذلك أفعالنا واختياراتنا محددة بشكل صارم من خلال العمليات الفيزيائية الواضحة - وهي وجهة نظر تُسمى أحيانًا (الحتمية الصعبة).
وتفتح اللاحتمية على مستوى الكم الباب أمام الإبداع والإرادة الحرة، ولكن إذا فسرناها بمعنى الفرصة المطلقة، يعني ذلك أن اختياراتنا وأفعالنا تظهر عشوائيةً تمامًا وبطريقة اعتباطية، وفي هذه الحالة يصعب تسميتها أنها اختياراتنا وتعبيرٌ عن إرادتنا الحرة.
في المقابل، يمكن تفسير اللاحتمية الكمومية بسبب من مستويات غير مادية، بحيث تكون أفعالنا الحرة هي المسببة - ولكن بواسطة عقولنا ذاتية الوعي (1).
تتطور العلوم بدافع الفضول البشريّ للإجابة عن أسئلة وجودية، نحو: من نحن؟ ومن أين أتينا؟ ولماذا نحن هنا؟ ومع تطور الفيزياء الكمومية نجد أنها تتعدى حدود المنطق والفلسفة، وربما تكون مفتاح اللغز الذي بدأ معنا منذ بداية الوجود.
المصادر: