كتاب > معلومة سريعة
الحياة رغمًا أعراس آمنة
"كان يلزمنا قلوب أكبر كي تتسع لكلّ هذا الأسى"
لتعرف ما يجري على هذه البقعة، يمكنك أن تفتح التلفاز أو أن تنفض الغبار عن رواية لا يهم إن كانت مكتوبةً منذ عشرين أو أربعين أو حتى سبعين عامًا وتقرأها؛ لأن المشهد ذاته والمعاناة نفسها، ومع هذا العمل الذي يصوّر المشاهد اليومية في الداخل، سنرى كيف استطاعت "آمنة" أن تصنع أعراسها.
تُطِل علينا "آمنة" من إحدى لوحات "الملهاة الفلسطينية" للكاتب ابراهيم نصرالله (1954) التي اختار فيها أن يصوّر حياة الداخل الفلسطيني إنسانيًّا وثقافيًّا ووطنيًّا، فتطِل لترينا أنّ هناك شيئًا ثمينًا لا يمكن للمحتلّ مصادرته، ألا وهو الخيال! وبقولنا الخيال، فإننا لا نقصد الوهم، بل هو وسيلة لمقارعة البؤس والمحتل على حدٍّ سواء.
تبدأ الرواية بزيارة "آمنة" جيرانها لتخطب ابنتهم "لميس" لابنها "صالح"، فالحياة لا يجب أن تتوقف إذا أصبحت الحرب مشهدًا يوميًّا، ولا حتى باعتقال والد الفتاة أو اختفاء زوجها. زوجها الذي قدِم إليها عريسًا بتابوت خشية القبض عليه، الذي تلقى طعنتين صامتًا لإثبات أنه ميت، فوصل حينها المستشفى قبل أن تلقاه عروسه.
لميس أم رندة؟ لا يمكننا معرفة ذلك فهما توءم وكلّ منهما تحاول الاستحواذ على اسم لميس، وبصورة أدق تحاول إبقاء لميس حيّة.
"رندة" صحفية "مع وقف التنفيذ" -على حدّ تعبيرها- تحاول في دفترها التقاط كلمات الأمهات والجدّات، وكلمات الأطفال الأخيرة قبل أن يرتقوا إلى السماء، وتحاول أن تُبقي دليلًا على أنهم كانوا أحياءً، وحُلمها أن يرحل الاحتلال قبل أن تنفد صفحات دفترها السميك، لكنّها لاحظت أن خطّها بدأ يصغُر شيئًا فشيئًا.
يغادر أحدهم الحياة في هذي البلاد ويرى من عليائه عشرات النسوة تبكيه، ليجد لنفسه كثيرًا من الزوجات، وعديدًا من الاخوات والامهات يَحرُسْن قبره ويتشاركن الحزن، ولا تغادر إحداهنّ صاحباتها إلّا مهلِّلةً للعثور على فقيدها حيًّا، ولا تعرف المرأة منهن فقيدها بحقٍّ إلا حين ينفضّ الجميع عنها، ولا يبقى سواها تحتضن قبره وتحرسه مع بعض الملائكة. هناك دائماً في المقبرة قبورًا فارغة تنتظر زوارها، وهناك "عزيز" ليحفر دائمًا قبورًا جديدة، فيعتني بالقبر ويحفره كأنه يحفره لنفسه!
إذا كان قدرك أن تولد هنا، فقدرك أن تموت، فطرق الموت أوسع من طرق الحياة، سواءً كنتَ مقاوِمًا أم مستسلمًا، نائمًا في فراشك أم ساهرًا على سطح دارك، ليس هناك مهرب، فنجاتك اليوم هو تأخير للقدر فحسب.
بالعودة لآمنة وتحضيرات العرس نتساءل، هل تتوقف تحضيرات العرس لمجرّد أن العريس لم يعد موجودًا بجسده، وبأنّ العروس تلقّت -على سطح دارها- حشوة قنّاص فارتقت سريعًا إلى السماء؟! قد تبدو حُجّةً مقنعةً، لكنّ آمنة لا تقتنع بذلك، فهي تواصل التحضيرات، وما تزال توقِظ زوجها وأولادها كلّ يوم وتحكي لهم عنها وتتذمر منهم.
المصدر:
نصرالله ابراهيم. أعراس آمنة. بيروت: الدار العربية للعلوم ط4 2012. ص 149