كتاب > روايات ومقالات
أن نقف أمام أنفسنا.. أن نقف أمام الغريب! مراجعة رواية "واحد، ولا أحد ومائة ألف"
كيف ننظر إلى أنفسنا من عيون الآخر؟
يحاول بيراندللو الإجابة عن هذا التساؤل عبر رحلة بحثٍ كلفته خمسة عشر عاماً من دون انقطاع، بوصفها وصيةً أخيرةً لأفكاره وأدبه وفلسفته في الحياة.
يدخل الكاتب (لويجي بيراندَلُّلو- (1867- 1936) - Luigi Pirandello) بروايته إلى مكان بعيد ومُعتم؛ مكان لا يمكن لنا رؤيته إلا إذا نظرنا داخلنا نحو زاوية تشبهنا، لكنها أكثر من مجرد "انعكاس" وأبعد من صورة خارجية نسميها "جسد"، مكانٌ يمكننا فيه أن ننظر نحونا مباشرة لنعيد التعرف إلى ذاتنا من جديد.
نُشرت الرواية أولَ مرة عام 1926م، وحصل كاتبها على جائزة نوبل للآداب عام 1934م، (1) تختصر هذه الرواية تجربة بيراندللو مع ذاته، وكيف استطاع إسقاط تجاربه الحياتية بطريقة واعية ودقيقة، وكثَّفها ومزجها بقالب أدبي فلسفي ليقدمها عبر هذا العمل.
"كنت محتاجاً إلى مرآة. من ناحية أخرى، مجرد التفكير في أن زوجتي كانت في المنزل كان كافياً لجعلي حاضراً أمام نفسي، وهذا بالتحديد ما لم أكن أريده"
تبدأ الرواية عندما وقفت زوجة الكاتب أمامه وأخبرته أن أنفه مائل! تلك العبارة كانت كفيلة بقلب موازين الاستقرار النفسي لديه ليبدأ من جديد بالتعرف إلى نفسه، "هل هذا أنا؟" هذا ما قاله لويجي لنفسه عندما لمح انعكاسه أمام مرآة في الشارع خلال سيره، هل هذه حقاً صورتي؟!
يكشف هذا الموقف الصراع الداخلي الذي أحال الكاتب إلى الوقوف غريباً بينه وبين شكله، كأنه طرف ثالث بين صورتين تختلفان عن بعضهما وتتطابقان في الوقت ذاته.
إن مراقبة النفس تحكم وتحدِّد تصرفاتنا، تجعلها أكثر كلفةً وتُفِقد اللحظة عفويتها، وهذا ما يجعل المرء في حالة إحكام ليتلاشى بالتدريج في حين يدقق النظر في أنفه ويقول: "هل أنفي مائل حقاً؟"
"العزلة لا تكون أبداً وأنتم مع أنفسكم، بل تكون دائماً وأنتم بلا أنفسكم"
رغبة الكاتب في لحاق هذه الكلمات وتتبُّعها أجبرته على دخول عزلة طويلة، بعيدة عن الآخرين وعن نفسه وعن آرائه، لا مكان مُحدد للعزلة، فالعزلة تَحدث حينما تقرر أن تكون وحدك، حتى وإن كنت ضمن حشود من الناس.. فتصوِّر هذه الرواية علاقته بهذه الأمكنة وكل الاكتشافات والأجوبة التي كان يستشفُّها من تجاربه الذاتية.
ونشهد في هذه الرواية تغيراتٍ كبيرةً على المستوى الذاتي لشخصيات العمل، ونتتبَّع تطورها عبر الأحداث لتبين أن الوعي الحقيقي نكتسبه من تجاربنا، وعدم الحصول عليه يعني أننا لا نزال جامدين في مكانٍ داخلنا، كل هذه الأمور يمكن أن تحدث بسبب كلمة قد تخرج كسكين من الفم، لكن على العكس، بدلاً من أن تقتله جعلته يحيا ويخرج من وهم يدعى "المثالية" ليرى نفسه من مكان أبعد، من الخارج تماماً.
"كان واضحاً أن المعنى الذي كنت أعطيه لكلماتي كان معنىً بالنسبة إلي، وأما ذاك الذي كانت ترفعه تلك الكلمات إليها، كلمات "جينجيه"، فكان شيئاً مغايراً تماماً. بعض الكلمات، أَنطقتُ بها أنا أم أحد آخر؟!"
بهذه العبارات الكبيرة يكشف بيراندللو عن الآخرين القابعين داخله وداخلنا جميعاً؛ هؤلاء يخرجون منا طوال الوقت من دون إذن، وربما يطلقون كلاماً وأحكاماً عننا وعن غيرنا أيضاً، حتى وإن كانت هذه الأصوات لا تشبهه لكنه لم يكن ينتبه إلَّا عندما بدأت دموع زوجته بالسيلان من دون أن يقصدَ ما حدث.
وتكمل الرواية بحثها وتقصِّيها في ذات الكاتب إلى أن تصل إلى طفولته البعيدة، تتناول موضوعاتٍ مختلفة؛ مثل الهوية الشخصية وعلاقتها بالمحيط وقوتها الذاتية وقدرة التحكم بها.
وتتميز الرواية بأسلوب كتابي عميق وكثيف، يكشف عن عواطف الكاتب وتفاعلاته النفسية خلال رحلته هذه.
"واحد، ولا أحد ومائة ألف" أحد أهم أعمال بيرانديللو الأدبية البارزة؛ عملٌ يستحقُّ القراءة لمن يهتمُّ بالأدب الإيطالي والعالمي الكلاسيكي (2).
المصادر:
2- بيراندَلُّلو لويجي. رواية واحد، ولا أحد ومائة ألف. ت: أمارجي. منشورات المتوسط؛ 2017. ص: 288